سؤال غاية في الاهمية بمقدوره انتشالنا من المسارب الخطرة عند مفترق الطرق. لا يختلف كثيرا عن حرص قائد العربة للتاكد من وضع محرك عربته ومكابحها ووقودها، قبل الانطلاق برحلته. حال المجتمعات والبلدان (ازدهارها او انحطاطها) مرهون بهما، وقد تعرفنا على المآسي والاهوال التي تعرضت لها امم عريقة، عندما اختل عندها حال المعلومة والاخلاق، منها المانيا في الثلاثينيات من القرن المنصرم. ولانهم كانوا على قدر كبير من الذكاء والارادة والتصميم تمكنوا من تدارك الحال، صنعوا التشريعات والمؤسسات التي تقطع دابر اية محاولة لتسلل هلوسات الماضي والهذيانات البعيدة عن الحكمة والمسؤولية، انهم في يقظة دائمة من مثل تلك الاوبئة المميتة. أما في هذا الوطن الذي استباحته عصابات “أوباش الريف وحثالات المدن” ولزمن أطول بكثير مما عاشه الالمان مع هتلر وعصاباته النازية؛ فما زالت قطاعات واسعة منه لا تشعر بالخجل والعار من تلك الحقبة وانتهاكاتها المشينة وحسب، بل تحن اليها وتتعاطف معها بشكل لا يصلح معهم الا الحجر الصحي، لما يشكلوه من خطر على امن هذا البلد ووجوده.
ورثنا من النظام المباد كم هائل من حطام البشر والاخلاق والقيم، غير اننا كعراقيين من دون استثناء (افرادا وجماعات) لم نقتفي أثر المجتمعات التي تصدت لمثل تلك الفضلات السامة (الالمان كمثال) عندما اعادوا بناء مدنهم المدمرة بشكل كامل واقتصادهم وطرقهم ومدارسهم ومراكزهم العلمية ومنظومتهم التربوية والقيمية باقل من الوقت الذي استنزفناه (فيما يفترض انها مرحلة للعدالة الانتقالية) جميعا من دون استثناء على اساس الطبقة السياسية أو الشارع العراقي، فالجميع مشترك فيما انحدرنا اليه من فشل وعجز وفساد على شتى الميادين المادية والقيمية. كل من ينكر واقع الكرنفال التنكري الواسع، وخفتنا وانعدام المسؤولية في امتشاق الاقنعة وكثرة ممارستنا لتقنية الدقلات وغير ذلك مما تتميز به ترسانة المهزوم والمعطوب والمذعور؛ يقف في افضل الاحوال الى جانب من يحجب عن العراقيين فرصة التعرف على علل خيباتهم العضال؛ أي الخلل الفظيع في المنظومة القيمية والاخلاقية والكم الهائل من مسوخ المعلومات التي يجترونها على حساب المعلومة والمعرفة الصحيحة والمسؤولة.
لقد فرطت الطبقة التي تلقفت مقاليد امور عراق ما بعد “التغيير” بالفرصة التاريخية وبكل الخيارات التي شرعت أمام العراقيين، بفعل شراهتها وضيق افقها وطائفيتها وشوفينيتها وعدم كفاءتها في التعاطي مع تحديات المرحلة الانتقالية، سياسات لا مسؤولة شرعت الابواب لجيل جديد من القتلة واللصوص، وبدلا من ان تؤسس الضد النوعي للنظام المباد، وبنحو خاص في مجال العدالة وسيادة القانون على الجميع من دون استثناء، باشرت عملها مبكراً في التستر على جرائم كبرى وانتهاكات يندى لها جبين البشرية، استتناداً لثوابتهم الجليلة في التمييز بين “اولاد الست واولاد الجارية” تلك القيم التي ركلتها البشرية الى متحف المنقرضات منذ قرون. أكثر من 16 عاماً ومع طفح هائل من وسائل الاعلام السمعبصرية والمطبوعات ومواقع التواصل الاجتماعي، وعدد لا يحصى من ضخ المنابر الدينية وتمدد الجامعات الاهلية ومراكز للبحوث والدراسات (تجاوزت عددها ما تمتلكه الصين الشعبية) ومئات الاحزاب والكيانات والنقابات ومنظمات المجتمع المدني وما يتجحفل معهم في الوظيفة والادوار؛ جميعها وضعت نصب أعينها كل ما يمكن ان يخطر ببال القارئ الكريم، الا أمر (المعلومة والاخلاق) المحجور عليهما الى أن يقضي الله أمرا كان مفعولا…
جمال جصاني