انخيدوإنا كاهنة المعبد السومريّ، أميرة أكد، ومبدعة عصرها

سيدة الشعر الأولى في العالم كتبت القصيدة النثرية..

سعد الساعدي

ليس غريباً في بلدٍ ظهرت فيه أولى الحضارات والكتابة، وجود تنوعٍ يختلف عن كل ما موجود في المعمورة، ومنه الأدب والشعر وفنونٍ أخرى أرّخَ لها علماء الآثار الغربيين قبل غيرهم وهم يكتشفون أسرار الحضارة السومرية ومنجزاتها قبل آلاف السنين.
واحدة من مآثر التاريخ السومري، وحضارته الراقية شاعرة قيل أنها أول امرأة في التاريخ كتبت الشعر وغيره من كتابات، وبعضهم صنّفها كأول ناشطة نسوية مدنية تحاكي قصائدها واقعنا اليومي وهي تصف بوجدانها انسانية الوجود، ومآسي الحروب، وما يتعرّض له انساننا اليوم، وربما كل يوم قادم ؛ إنها ابنة الملك العراقي سرجون الأكدي، كبيرة كاهنات معبد أور، ومساعدة ملك المملكة، سرجون، من أمٍّ سومرية الأصل إحدى حافظات المعبد المقدس حينذاك ؛ كاهنة وزوجة الملك ؛ لذا يمكن معرفة حجم تأثير الأسرة على ما وصلت اليه انخيدوإنا، وما تأثرت به من عشقها لآلهتها انانا .
من هنا يحق لنا الوقوف والتأمل عند قصيدة النثر مع ما كتبه الشاعر والكاتب عدنان جمعة وهو يتجول بين ثنايا الأدب والشعر السومري، ومن الانصاف القول أن الشعر عراقيٌّ، وقصيدة النثر لم تكن لقيطة رميت قرب جوانب الشعر، لتمحو آثاره المجيدة وروائعه الخالدة كما يقول البعض، وبعيداً عن ذكر الأسماء ممن تطاولوا بشكل ماحق على قصيدة النثر، وبعيداً أيضاً عن معايير الخليل أبن أحمد الفراهيدي وبحوره الستة عشر التي أراد بها وضع منهج صحيح لكتابة القصيدة العمودية، فإن قصيدة النثر ولدت قبل أكثر من أربعة آلاف سنة، وليست مع بدايات القرن العشرين كما يصنفها البعض ممن لم يقروا التاريخ جيداً، وقد تكون الهجمة عشوائية من قبل من أسموا انفسهم نقاداً وهم لا يعرفون غير تسليط السيوف على كل أبداع؛ سواء الجديد منه أو الماضي .
لا يمكن لمدعي نكران جمالية ما كتب المتنبي، وأبو فراس الحمداني والفرزدق وأبو العلاء؛ لكن في ذات الوقت لا يمكن الجمود عند قوانين لم تعرف رؤيا مستقبلية، وما تأتي بها الحضارة اللاحقة مما نشاهده اليوم في عصر العولمة وكتابات ما بعد الحداثة التجديدية التي انطلقت معها من جديد القصيدة النثرية، وليس ابتكاراً وجدانياً ولد معها بعد نسف القواعد الخليلة وظهور قصيدة التفعيلة وما أسسته الشاعرة نازك الملائكة وكتبه السياب وغيرهما .
1165 عدنان جمعة
لم يعلم الفراهيدي أن الحياة تتغير وتتجدد كل يوم وساعة، وربما كل دقيقة؛ فلو علم ساعتها أن الانترنت والفضائيات ستغزو العالم لقال: أضع قوانين الشعر، ودستوره اليوم، على أمل تصحيح المسيرة إن احتاجت ذلك، ولن اعترض على كل قادم يخدم الانسانية ويسعدها، ويمتعها بالجمال .
إن كانت القصيدة العمودية تزينت بموسيقاها الرنانة، وبيانها وبديعها وبلاغتها ؛ فلن يمنع ذلك القصيدة النثرية من حمل نغمات موسيقية مضمرة بلا قافية ووزن خليلي، ولكلٍ صورة لون خاص بها، ولكل شيء أداة وزنه كالمثقال عند صائغ الذهب، والكيلوغرام مع بائع الحبوب . لقد تشكلت القصيدة النثرية العربية من رحم اللغة الام، واكتسبت رونقها وجمالها من اشتقاقات اللغة وانزياحاتها، وما رافق ذلك بالكناية والتشبيه الذي تشترك به مع القصيدة الموزونة فراهيدياً، الصادحة غنائياً مع أن قلة من قصائد النثر مغنّاة لولا ما سنجده في هذا الكتاب من اناشيد تراتيلية كتبتها انخيدوإنا لتُرتّل في المعابد الأكدية بعموم المملكة بما تحمله من أحساس صادق نابع من وجدان امرأة لم يفارقها الوجع، مع ما انها أبنة سيد المملكة . وكما يقول عنها عدنان جمعة في كتابه هذا: « قدمت قصائدها الحقائق الروحية المتضمنة أوجه الحياة كلها» مضيفاً عن معاناتها: «كذلك الفزع نفسه الذي وشح نصوصها وإحساسها بالوحشة والغربة والوجع الذي سببته الأحقاد وإغراءات السلطة».
قال بعض من أرّخ للأدب المعاصر أن قصيدة النثر ولدت مع الشاعر العراقي د. مراد ميخائيل كما يذكر الكاتب عبد الامير الربيعي في مقاله (مراد ميخائيل .. الشاعر الذي أول من كتب قصائد النثر) المنشور في موقع الحوار المتمدن نقلاً عن الروائي العراقي سمير نقاش مؤكداً بأن الشاعر معروف الرصافي أطلق على شعره (الشعر المنثور) وتعد من أغرب قصائده قصيدة (نحن الشعراء) التي شارك فيها بمهرجان مبايعة أحمد شوقي أميراً للشعراء عام 1927 ولم يعترض عليها معترض وقتها حسب ما ذكر الكاتب بمقاله. ما يعني أن القصيدة النثرية ليست وليدة ما بعد الحداثة أو الحداثة التجديدية اللاحقة، بل هي أقدم من ذلك، وكل القِدَم يعود لشاعرتنا انخيدوإنا التي سبقت الجميع كتوثيق تاريخي، وربما سبقها من هو اقدم لكن لم يُعرف اسمه، كما يؤكد ذلك عدنان جمعة وفق الأدلة التاريخية .
والقصدية التاريخية التي سار عليها المؤلف هنا كشفت، أو ساعدت بصورة غير مباشرة على حلّ الاشكالية العالقة، أو جزء منها بين قصيدة النثر وحتى القصيدة التجديدية التي يسميها البعض قصيدة السرد التعبيري، مع أن مفهوم السرد والتعبير خارجان بعيداً عن المفهوم الشعري والقصيدة الشعرية الموزونة المتمسك بها البعض بأنها هي الشعر وغيره لا يمتّ الى الشعر بصلة .
التاريخ هو من كشف جذور القصيدة النثرية، وعمقها وسلاسة كلماتها منذ أكثر من الفين وثلاثمائة عام قبل الميلاد؛ اي قبل ثبات الشعر العمودي في كل العصور الجاهلية اذا سلمنا جدلاً أن أول من قال الشعر هو سيدنا آدم عليه السلام حسبما ورد عن الشجيري في أماليه عن ابن عباس حيث ينسب اليه قوله بعد أن قتل قابيل أخاه هابيل:
تغيرت البلاد ومن عليها .. فوجه الارض مغبر قبيح
تغير كل ذي لون وطعم ..وقل بشاشة الوجه الصبيح
وفي رواية أخرى أنه رثى هابيل قائلاً :
وجاورنا عدواً ليس يفنى .. لعين ألا يموت فنستريح
أهابل إن قتلت فإن قلبي .. عليك اليوم مكتئب جريح
علماً أن البحوث التاريخية تؤكد صراحة بأن الانبياء لا يقولون الشعر، ولم ينطقوه أبداً، فيما يرى البعض أن من قاله أولاً هو الشاعر العنبر بن تميم ؛ لكن تحديداً ليس هناك زمن تاريخي بعيد للقصيدة الموزونة شعرياً وفق قوانين الفراهيدي سبقت قصيدة النثر التي لابد من الاشارة بأنها ترتكز على مقومات ثلاث تمتاز بها أيضاً وهي : الجمال، واللغة الوصفية والمعنى.
لكن الحقيقة أنها عادت وتجددت ربما من خلال مراد ميخائيل أو غيره، ومن كتب بعده لاحقاً، فلقد سبقتهم شاعرتنا الأكدية السومرية انخيدوإنا بأكثر من عشرات القرون وهي تسطر تراتيلها اللاهوتية بعشرات القصائد من أجمل ما كتب الى الآن في قصائد النثر التي نعُّدها حداثوية مائزة بالتجديد .
وقد أورد الكاتب عدنان جمعة في الكتاب الذي بين أيدينا اليوم (إنخيدو إنا شاعرة تراتيل المعبد السومري) الكثير من المقطوعات الشعرية التي نتركها للقارئ يمتع نفسه بها كمتلقٍ مشارك في النص، يحلل ما يراه، ويفهم ما أمامه كونه عنصراً مهما في التفاعل مع الرسالة الاعلامية حسب نظريات الاتصال، وعاملاً فاعلاً في تلقي النص والتكيّف معه وفق نظرية (الجمال والتلقي) بعيداً عن حيثيات النقد والانتقاد غير المبرر لقصيدة النثر التي انطلقت بها انخيدوإنا، وسجّل ملاحظاته عنها من يكتب بعضاً من سيرتها اليوم بتكرار نجده ضرورياً للتعريف بقيمة حضارتنا، وجذور القصيدة النثرية التي يكتب بها مؤلف الكتاب أيضاً . كما ينبغي لنا أيضاً معرفة الجهد الذي بُذل بجمع الكثير من المعلومات من مصادرها العلمية، ومواقع الانترنت بكل ما تحمل كتابات بحاجة الى دقة وتحليل، وقف عندها عدنان جمعة وأخرج ما سنقرأه معاً: (إنخيدو إنا شاعرة تراتيل المعبد السومري) ولكلٍ رايه فيما يرى، ووجهة نظره في كيفية اطلاق الاحكام، وهل أن قصيدة النثر لقيطة أم أصيلة الوجود رغم الطعنات الكثيرة الموجهة لها وكما يقول الكاتب حكمت الحاج في مقاله: (قصيدة النثر مآلاتها وطرائقها رؤية تأويلية) مشيراً برؤية أولية مبتدئاً مقاله بالقول:
«اسمها قصيدة النثر، هذا المختلط الأمشاج، المشتبه فيه، والمتناقض، اللقيط، ولكن اليتيم أيضاً، يثير تساؤلات تتطلب مزيداً من التدقيق في كل شكل شعري راسخ في اللغة العربية». في حين يرى اجمالاً الناقد والأديب اللبناني الدكتور شربل داغر كخلاصة لكتابه (الشعر العربي الحديث ـ قصيدة النثر) والحائز من خلاله على جائزة الشيخ زايد للإبداع عام 2019 أن قصيدة النثر حملت الى الشعر العربي المتأخر شعرية جديدة، مغايرة، ما يحسب لها، لا ضدّها . ويضيف على ذلك بقوله: أنها استجابت لتحديين متباينين ومتلازمين ؛ التفاعل مع تجارب شعرية متعددة في العالم، من جهة، وإبراز جوانب من عالم المتكلّم بالعربية، وأحواله من جهة ثانية . أي أن تكون متجذرة ومفتحة في آن، وأن تكون تعبيراً وارسالاً منغمسين في التاريخية الاجتماعية ..
وهذا ما سيجده القارئ في هذا الكتاب بعد التعرف على سيرة انخيدوإنا وكتاباتها التي سبقت الغرب بكتاباتها انطلاقاً من بؤرة حضارية واسعة المدى صنعت المجد لأهلها الذين اضاعوه لاحقاً، وتكدس كركام تمرّ عليه الرياح بلا تحية أو سلام، وشكراً لعلماء آثار الغرب الذين كشفوا لنا جزءاً من تاريخينا المغمور، ومنه شاعرتنا انخيدوإنا، ولعدنان جمعة الذي سلط الضوء عليها وعلى اشعارها وتاريخها بشكل متماسك في حزمة واحدة بعد أن كان مشتتاً.

  • مقدمة كتاب انخيدوإنا شاعرة تراتيل المعبد السومري، للكاتب والشاعر العراقي عدنان جمعة الصادر حديثاً /سبتمبر/عن دار المتن في بغداد

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة