كل له أكثر من وجه في.. رغبات ممنوعة

يوسف عبود جويعد:

إن التنوع الحاصل في فن صناعة الرواية، وابتكار المعالجات الفنية الحديثة، وخلخلة الرتابة وتحريكها، والابتعاد عن القوالب الجاهزة، ومحاولة الروائيين تغيير الأدوات السردية الكلاسيكية، والبحث عن أنماط وأساليب جديدة تدخل ضمن مسار بناء الرواية، تلك الأمور هي واحدة من الأسباب التي جعلت الرواية تتسيّد الساحة الأدبية وتتفوق على بقية الأجناس الأدبية، وإطالة وقت بقائها ما دامت هنالك مؤشرات صحية نحو إيجاد المتغيرات التي تتطلبها عملية ديمومتها، ومن تلك السمات، نقف اليوم مع الروائي ضرغام علاوي ومن خلال روايته (رغبات ممنوعة) التي استطاع فيها أن يوظف فن صناعة الفلم السينمائي ضمن مبنى السرد وجعله حالة متممة ومساهمة مع حركة الاحداث، وكذلك توظيف الحس الدرامي ضمن مسار الأحداث الملتهبة المتصلة التي لا تحتاج إلى نقلات كبيرة ومتنوعة لمتطلبات السياق الفني المتبع في هذا النص، فليس من الضروري في أحيان كثيرة أن يقوم الروائي بضخ تلك التنقلات وجعلها فصولاً مبتعدة عن بعضها لغرض استعراض مهارته في نسج تلك الفصول، فالأمر في هذا النص مختلف تماماً ولا يقبل أي إضافة أو تغيير بحكم الأحداث التي ضمت فيه، وكذلك نجد في هذا النص أيضاً إلغاء كل المؤثرات التي أضحت بصمة وسمة يتصف بها أغلب الروائيين، ألا وهي الإسقاطات السياسية والاجتماعية والأحداث التي تدور في البلد، دون أن يكون هنالك مبرر لوجودها، وقد عمل الروائي على إبعاد كل ذلك من أجل أن يصل العمل الفني الروائي للمتلقي خال من أي شوائب أو زيادات أو مباشرة أو تقريرية أو خطابات ليس لها مكان ضمن الأحداث، وكأننا نحجز أماكننا في أحد الصالات السينمائية نتابع مجريات العمل الروائي، نكون مع المحور الرئيس في هذا النص، وبطلة النص الدكتور هند وهي تدخل الحرم الجامعي، منشغلة بمهمتها العلمية الكبيرة، وهي محاولة إكمال اختراعها العلمي الكبير، بمساعدة الاستاذ سامر الذي كانت مهمته توفير الأدوات الأساسية والأسلاك والمواد التي تحتاجها من أجل إتمام مهمتها، وكذلك خبرته في العمل في الاجهزة الدقيقة والالكترونية حيث كان معها خطوة بخطوة في شد وربط هذه الاجزاء وتركيبها وتنصيب البرامج الالكترونية التي تصل الجهاز بجهاز الكمبيوتر، وهي متحمسة جداً من أن ينتهي تنصيب هذا الجهاز وتقديمه إلى اللجنة العلمية التي سوف تشكل في الجامعة لكي تحصل على براءة اختراع له.
إن الأحداث سارت بنمط تتابعي متصل خلت من أي قطع أو إشغال المتلقي لأي جانب أو حالة تحول بينه وبين متابعته للنص، فجاءت تلك الأحداث منسابة بكل دقة وحذر من أجل لا تفلت أي شاردة أو واردة تخص هذا الاختراع وأهميته وما دوره داخل هذا النص، حيث نكتشف أن بؤرة الأحداث تتمثل في هذا الجهاز أكثر من أي أداة من أدوات السرد، بعد أن نعرف أهميته ضمن السياق الفني لمبنى السرد، ويتمثل بكونه جهازًا مصممًا من صندوق مربع داخله اسطوانة دائرية وكرسي مربوط بأسلاك وكذلك تلك الاسطوانة التي تعمل على الاشعة السينية، وما أن يجلس أي شخص على الكرسي ويغطي ربع جسمه داخل الاسطوانة ويتم ربط الأسلاك في دماغه، حتى تظهر كل الخبايا والأسرار التي خزنته ذاكرته وما يخفيه من أسرار يصعب البوح بها على الملأ وتنتقل تلك الإشارات عبر البرنامج المعد في جهاز الكمبيوتر، ثم تنتقل تلك الإشارات إلى برنامج آخر يقوم بتحويل تلك الإشارات إلى صور واضحة تكشف هذه الأسرار مهما كان نوعها وسريتها ومحاولة الشخص إخفاءها، ومن أجل التأكد من صحة عمل الجهاز وإجراء التجارب بعد أن نقلته إلى بيتها خوفًا عليه، تقوم بإجراء أول تجربة على مساعدها الاستاذ سامر، وتدهش من هول ما رأت بعد أن تحولت الإشارات إلى صور واضحة، فقد ذُهلت لما تحوي ذاكرة سامر من صور تتعلق بها هي، فقد اتضح أنه معجب بها وبقوامها وجمالها وجسدها، وتظهر لها صور وهي عارية أو لسيقانها أو بروز نهديها، الأمر الذي جعلها تغضب وتتعصب عليه وتبتعد عنه رغم إنه خيال في داخل ذاكرة سامر:
(حدث كل هذا وهما لا يريان بعضهما، فغطاء الرأس عبارة عن صندوق كبير على شكل اسطواني من الداخل ومربع من الخارج تحمله ذراعان كبيرتان يدخل فيه جسد الإنسان حتى نهاية قفصه الصدري ليصل إلى سرته.
دون شعور مسكت يده بقوة برجاء شديد:
ضحك ليعطيها جرعة من الثقة كانت تحتاجها فتوجهت إلى الجهاز وأطلقت فيه التيار الكهربائي واتجهت إلى جهاز الكمبيوتر وبدأت بتشغيل النظام بدءًا من البرامج وصولاً إلى اللمسات الأخيرة) ص 48
وهنا يدخل الحس الدرامي الذي وظفه الروائي ضمن أدواته التي أستخدمها، فلم تظهر تلك الحقائق بشكل مباشر، وحال الانتهاء من فحص الجهاز وظهور تلك المعلومات، إلا أننا نلاحظ فتور غريب في العلاقة ظهر ضمن متابعة الأحداث وحالة من الشد العصبي اجتاحت الدكتورة وهي تحاول إبعاد سامر عنها، رغم التواء كعب حذائها وسقوطها، ومحاولة سامر الإسراع لنجدتها ورفعها عن الأرض إلا أنها نهرته وصرخت فيه أن لا يلمسها وأن يبتعد عنها, ونظل نتابع انحراف العلاقة بينهما وظهور الحقائق تدريجيًا.
وبما أن الاحداث تسير بخط تتابعي متصل ولا فائدة من وجود انتقالات أو فصول ضمن مسار هذا النص، وأمر بقائها بدون فصول قد يخل بالعملية السردية، فقد عمد الروائي إلى استقطاع جمل قصيرة من ضمن الأحداث جعلها عناوين لفصول يريد فيها أن تكون متنفسًا للمتلقي الذي سوف يتابع بكل اهتمام حركة الأحداث، وهي لا تضر ولا تشكل عائقًا يحول بينه وبين المتابعة، إذ إنه سوف يجدها ضمن بناء السرد.
وتبدأ دورة الأحداث تكبر، وتزداد حبكة النص قوة وشد، حيث تقوم بإقناع زوجها أن يجلس على كرسي الجهاز وإجراء الاختبار له، فتكتشف بأنه معجب بامرأة أخرى جميلة غيرها، وتسوء علاقتهما، ثم تجري اختبارًا لابنتها فتكتشف أنها تحب رجل كبير هو أستاذ جامعي، وتجري اختبار لابنها، فتكتشف أنه شاذ، وتجري اختبارًا لزميلتها الدكتور لينا فتكتشف أنها تحب زوجها، وتجري اختبارًا للدكتور فائز زميلها والمتابع لاختراعها فتكتشف أنه يحبها، وهكذا تسوء كل العلاقات الإنسانية بينهما لما لهذا الجهاز من براعة في تفريغ كل الخفايا والأسرار التي يريد الإنسان الاحتفاظ بها وعدم البوح بها حتى مماته، وهذا الكشف الجريء والصعب يسبب حرجًا وأضرارًا نفسية كبيرة، لأن لكل إنسان أسرارًا حدثت في حياته قد يجد فيها حالة مخجلة وحرجة وصعبة البوح أو كشفها إلا أن هذا الجهاز يعمل على فضح كل الخبايا:
(سمعت مريم صوت صرخة أمها وهي تنهر أخاها فتركت البكاء واتجهت مباشرة إلى غرفة الجهاز فوجدت أمها تركب الأسلاك على جسد أخيها، احتارت فيما تفعل، وما ستقول لأمها وهي التي تعودت الاحترام لوالديها حد التقديس فأسرعت إلى الأسفل راكضة تستعين بأبيها وقالت له:
أسرع أبي فإن أمي تضع كرم تحت ذاك الجهاز الملعون.) ص 89
وهكذا تشدد الاحداث وتتأزم، فتجد دكتورة هند نفسها وسط ركام كبير من المشاكل والازمات التي أراد الجميع الاحتفاظ بها كأسرار غير قابلة للبوح، إلا أن هذا الجهاز كشفها على الملأ، وبما أن جميع من حولها قد تعرى وانكشف المستور؛ يحاول زوجها وزميلتها دكتورة لينا وضعها تحت الجهاز لكشف خباياها، وباقتناعها وتوجيهاتها تقوم الدكتورة لينا بعملية تشغيل الجهاز، فتظهر المفاجأة الغريبة، بأن الدكتورة هند معجبة بجسد وجمال دكتورة لينا وتظهر صور متخيلة من داخل الذاكرة للدكتورة لينا بأوضاع إباحية وهي تتعانق وتقبل دكتورة هند فتولي هاربة وتشعر دكتورة هند بالخجل والندم وتبكي الليل كله، وعندما يحاول زوجها إعادة رؤية الصور التي التقطت له يكتشف أن تلك الفتاة التي أعجب بها هي بطلة فلم (تايتانك)، وتتأكد الدكتور هند بأن زوجها مخلص لها ولا يحب غيرها، لذا تحاول إصلاح الأمور وإعادة ما حدث إلى نصابه الصحيح، فتعيد الجهاز إلى الكلية وتحطم الأسلاك وتحاول تخريبه، إلا أن دكتور فائز يمنعها، ويطلب من أستاذ سامر إصلاحه، لكن سامر يخرج منه قطعًا لا يمكن اكتشافها لكي لا يكون صالح للاستخدام مرة ثانية.
وهكذا نخرج من دورة الأحداث لهذا النص، وكأننا خرجنا توًا من عرض لفلم سينمائي ممتع، يثبر فينا الشجون والمتعة ويجعلنا نغرق في تأملات كبيرة، ونخلص إلى حقيقة لا بد من معرفتها أن لكل إنسان وجهين، الأول وهو الظاهر والثاني الخفي والذي لا يحق لأحد كشفه لأنه يخصه وحده.
رواية (رغبات ممنوعة) لضرغام علاوي، جهد فني يتيح له الدخول لعالم الرواية الحديثة من أوسع أبوابها.
من إصدارات غوايات- مركز الطب الطبيعي للطباعة والنشر والتوزيع صيدا- بناية صيّاح- الطابق الأول- البوليفار الشرقي- 2019

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة