شكيب كاظم
وإن المرء ليحار من أين يبدأ، وهو يزمع الحديث عن الشامخ في دنيا البحث والكتابة والمبادئ، والصدق فيها فضريبتها باهظة، في دول ومجتمعات لا تحترم معنى التفرد، وتحاول بخس الناس أشياءها حسداً وضغينة، أنا الذي أزعم أني واكبته معرفياً وثقافياً، منذ أواخر الستينات الماضيات من القرن العشرين، إذ كنت أتابع ما ينشره في مجلة (الآداب) البيروتية.
لقد كان من المصادفات الجميلة أن اوفق، في قراءة الكتابات الأولى لعزيز السيد جاسم؛ كتبها سنة ١٩٥٤، يوم كان طالباً في دار المعلمين الابتدائية بمدينة الناصرية، وإذ تقرأ في المخطوط هذا، الذي بذلنا جهدا مضنيا في طبعه وتصحيحه، فإني لأعجب من لغة هذا الفتى وأسلوبه الكتابي، الذي خلا من أية هفوة في النحو أو الإملاء، وحتى في المسائل النحوية العويصة مثل، الممنوع من الصرف أو التنوين وتمييز العدد، وكنت أعجب من هذه القراءات العميقة في مناحي الثقافة والفلسفة والسياسة، لا بل حتى في علم التخاطر عن بعد وهو الذين عرف بـ( الباراسايكولوجي).وهو علم ما كان معروفا على نطاق واسع في ذلك الوقت، وقد أشار السيد عزيز إلى قراءته الأولى هذه، في تقديمه لكتابه المهم الذي أثار عليه حفيظة السلطة وأمنها وعسسها ووشاتها، واعني كتابه ( علي بن أبي طالب. سلطة الحق) إذ جاء في مقدمة الكتاب قوله «في المدينة العريقة (الناصرية) ابتدأت رحلتي الدراسية، ومعها ابتدأت رحلتي في المعرفة مع ( فولتير) و( جان جاك روسو) و( روبسبير)، ثم بدأت أتعرف على ( نيتشة) و( شوبنهاور) و( ديكارت) و( كانت)، حتى وصلت إلى ضفاف الفلسفة الأوربية، حيث استطلعت فقرأت ( ماركس) و(هيجل) و( فيورباخ) و(أنجلس) والفلاسفة الإنكليز، كذلك تجولت في عوالم ( توم بين)، و(لنكولن) والسياسيين والروائيين والمفكرين، وانقطعت عن عالمي الصغير الأول».
كما اهتممت بقراءة ومراجعة الكتاب، وهو في صورته الأولى ويقع في نحو أربع مئة صفحة حجمa4، الكتاب الذي جمع فيه نجله السيد علي، منتقيات مهمة مما كتب عن المفكر السيد عزيز السيد جاسم، ولا أقول كل الذي كتب، فهو يحتاج إلى جهد مؤسسي نفتقده، للاسف.
ولعل من أروع الدراسات التي اشتمل عليها هذا الكتاب (رحلة إلى البقاء) الدراسة القيمة التي كتبها شقيقه؛ الناقد والروائي والباحث الجامعي الدكتور محسن جاسم الموسوي، الذي كان يدير أهم مفصل ثقافي وقتذاك في العراق، وأعني دار الشؤون الثقافية العامة ببغداد، وما ينبؤك مثل خبير؛ يحدثنا عن توقيفهما في الأمن العام وهو مفصل مهم من مفاصل حياة السيد، الذي آثار ضغائن المتعصبين والمخبرين عند نشره لكتاب (علي بن أبي طالب. سلطة الحق) الكتاب الذي قدمه ابتداء لوزارة الثقافة لاستحصال موافقتها على طبعه، فلم تتحمل الوزارة مسؤولية الطبع، وحولته إلى وزارة الأوقاف، والى الخبير الفلاني الذي أحترم علمه وعلميته ولا سيما في مناقشاته للاطاريح والرسائل الجامعية، ولكن؟! الذي كان رأيه سلبياً، وهو ما دفع بالسيد إلى تسليمه للدكتور سهيل إدريس؛ صاحب (دار الآداب) في إحدى زياراته للعراق مشاركا في مهرجان المربد، فنشره وثارت ثائرة الوشاة والحساد وأوغروا صدر راس الدولة، الذي كان لا يرتاح لعقل السيد وقلمه، بسبب قربه من أبي دحام؛ عبد الخالق السامرائي.
السيد كان صوتاً يغرد خارج السرب، وذاك يريده صوتاً خافتاً في ضمن السرب المدجن الخائف وظلاً للظل، وغالباً ما كان المفكرون والمبدعون لا يرتضون التأطير والتبويب، ألم يغادر لويس اراكون شاعر المقاومة الفرنسية ابان الاحتلال الهتلري لفرنسة أثناء الحرب الثانية حزبه الشيوعي، والأمر ينسحب على البير كامو وبيكاسو؟
يقول الدكتور محسن، فالامل القائم في أي حزب من الأحزاب هو إيجاد مفكر له، لا مفكر حر يتجول في الفكر العالمي حسب ما يراه.
تقرأ لكثيرين، فتجد البون شاسعا بين حساب الحقل وحساب البيدر، إلاه السيد الذي كان يمثل قمة التطابق بين القول والعمل، وبين التصرف والرأي، فلم يرض أن يكتب شيئا يخالف ما اقتنع به من رأي ومسلك، فدفع ضريبة باهظة مع الدولة الراديكالية.
وما من كاتب إلا سيبلى-ويبقى ما خطت يداه
فلا تكتب بكفك غير شيئ-يسرك في القيامة أن تراه
لقد نشأ السيد قومياً عروبياً، لمست ذلك من خلال قراءة أول ما خطت يداه، وأعني كتابه الفلسفي الأول الذي سماه (المقامر) ثم تحول إلى الماركسية، التي نأى بجانبه عنها، لأنه كان يرى فيها وأدا للروحانيات، ويالجفاف الحياة وشظفها حين تخلو من اليقين الروحاني.
كان السيد يدعو إلى مواءمة بين الروح والمادة كي تستقيم الحياة، وإذ منع من الكتابة، فان صحيفة (العراق) الكردية فتحت له صدرها، ولاسيما أيام رئيس تحريرها الراحل، صلاح الدين سعيد، إذ كنت أتابع مقاله الأسبوعي آخذا صفحة كاملة.
مغادرته عالم السياسة، هو المفكر البيورتاني التطهري المتصوف المثالي، ألم يطلق صرخته، والقتال نشب بين الجيش الأردني وفصائل فلسطينية في أيلول ١٩٧٠: «كيف لدولة تدعي الموقف القومي، وتعجز عن الحيلولة دون ذلك؟».
السيد لا يفقه الاعيب السياسة، هو يعرف التطابق، يعرف المبادئ، لذا أطلق سؤاله البريىء هذا.
مغادرته عوالم السياسة الميكافيلية، دفعه نحو عوالم الروحانيات. والكرامات والتصوف، هو الذي كان متقشفا في حياته، فهو ما شد ربطة عنق على رقبته ابدأ، فكتب في التصوف دارسا متصوفة بغداد، ودرس الشريف الرضي، والرصافي، وعبد الناصر، ومحمد حسنين هيكل، وجمع شعر عبد الأمير الحصيري، فضلاً عن دراسة قيمة لشعر صديقه الأثير حميد سعيد؛ الذي سأل رأس الدولة عن مصير صديقه، ومن كان يستطيع المجاهرة بهذه الصداقة؟! فكان الجواب، كلمة واحدة: اتركه، وفي هذا الجواب فصل الخطاب، لقد قضي الأمر الذي فيه تستفتيان، وذهب السيد للقاء ربه يشكو ظلم الإنسان.
حاشية
قرأت هذا الحديث في (يوم المغيب العراقي) استذكارا للمفكر المغيب عزيز السيد جاسم، الذي أقيم ضحى يوم الجمعة ٢٠/من نيسان/ أبريل ٢٠١٨على قاعة الجواهري بمبنى الإتحاد العام للأدباء والكتاب في العراق، واستهل الحفل الذي أداره الدكتور سعد عزيز عبد الصاحب، بكلمة ألقاها نجله الصحفي السيد علي، ثم كلمة الإتحاد ألقتها الأديبة عالية طالب، وتحدث فيه أولا شكيب كاظم والناقد علي الفواز والدكتور داود سلمان العنبكي، وقصيدة للشاعر وجيه عباس، وأخرى للشاعر كاظم عبد الله العبودي.