أحمد الشطري
هل يمكن للشعر ان يكون سجل حياة؟ حياة حافلة بالأحداث الجسيمة، منفعلة بها ومتفاعلة معها لا بالشكل الاعتيادي، بل باحتراق تام حد الانصهار، فانت ترى او تشعر وانت تقرا هذه النصوص (السيَرِيَة) انعكاسَ حركتها وسكونها، واشتعالَ جمرها وانطفاءَهُ، ليس في ثنايا البوح فحسب بل في تراكيب الجمل. الجمل التي تتدفق في تسارع واضح عندما تتسارع الاحداث والمشاعر، وتسير باسترخاء عندما تهدا رياح الاحداث.
( الحياة في غلطتها) مجموعة الشاعر زعيم نصار الصادرة عن دار الروسم عام 2015 هي نصوص (سِيَرية) ان جاز لي الوصف لحياة انحصرت بين الاعوام 1986 و1991، وبين الاول والاخير كانت سلسة أحداث اختلفت في ايقاعها وفي وقعها ليس على حياة الشاعر فحسب وانما على حياة الوطن باسره، في نص (حياة على جانب النهر) هذا النص الذي يبدأ ممهدا لمسيرته بجمل وصفية ذات حركة ثابتة كونها جمل اسمية او شبه جمل: ( على الارجح السنوات التي مرت في الطريق المعلقة فوق الهاوية، كانت محشوة بالأخطاء، لقد زهوت بها، ربما لأنها اخترعتني شاهدا لحروب لن تنتهي، عن رحلة لعابرين ذهبوا لمدينة ضائعة، عن معارك دينية يمقتها الله،……) ص9 ثم ينتقل الى تدوين السيرة الشخصية مبتدأ بالحرف (ز) والذي يمثل مرحلة الطفولة كما ارى وهو ايضا يغلب على مسيرته الهدوء من خلال جمل وصفية في الغالب، بيد ان ذلك السكون سرعان ما يتلاشى مع اطلالة الحرف (ع) والذي يمثل مرحلة الشباب لحياة الشاعر كما اعتقد اذ يبدأ الاحساس والتفاعل الواضح مع صراعات الحياة وتدفق حركتها من خلال سلسلة من التساؤلات وتوالي الجمل الفعلية التي تعكس حجم الحركة. هذه الأسئلة المترادفة التي لا تبحث عن جواب بل تطلق صرخة حيرة، او اسئلة احتجاج على موت متوثب:
( ما الذي يفعله عند شدَّ عينيه أمام الوشاة، أشباه الرجال؟ ما الذي يفعله عند وضعه في حجرة تحت المسدس الحر؟ الموتُ جاهزٌ. ما الذي يفعله عندما يسمع موسيقى الجنائز. ما الذي يفعله إذ تحاصره الجدران؟)ص10
واذا كانت هذه التساؤلات هي خطاب الذات للذات، فان ذات الشاعر لن تكون محدودة بهذا الجسد الصغير بل هي ذات تتسع كلما اتسع صدى كلمته ولذا فان تلك التساؤلات المربكة لن تكون مربكة لتلك الذات المنحصرة في ذلك الفضاء الضيق؛ بل ستترك ذلك الارباك والحيرة سابحا في الفضاء اللا منتهي.
هذه الاسئلة وتلك الحيرة ستدفع بالشاعر اذن لفعل التخلص من وطأة (المسدس الحر، وأشباه الرجال) (هل ابقى بلا فعل أحصي الاسماء؟)، ليقرر بعد ذلك، (أخرج من المدينة التي كانت حياتها أشبه بلافتة حرب غامضة) ص11
هل كان هذا الهروب من المدينة متناصاً مع هروب موسى النبي؟ ({فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [القصص : 21]
هل كان زعيم واعيا ومتمثلا لسيرة (موسى) ام ان طبيعة الحياة واملاءات الموقف والاحساس المشابه هو الذي اوجد او اوحى بهذا التشابه الفعلي في الجانب الحياتي واللفظي في الجانب النصي؟ سؤال أيّا كان جوابه فهو يعكس حجم المعاناة والخطر الذي كان يعاني منه الشاعر في هذه المرحلة. ثم ينتقل عبر الحرف (ي) الى اجواء المدينة الاخرى، مدينة الهجرة، وكأيِّ غريب مطارد يشعر بالحيرة والتيه يوزع نظراته في افقها محاولا اكتشاف ما يمكن ان يكون له مأوى او ملجأ آمنا:( يقف في الطريق امام مدينة الشك فوق غيومها يرى نجوما صارخة، بلا أمل يقف طويلا اما لهيبها، يملي احلامه على نافذة في شوارع اللغة،) اهتداء الشاعر الى (شوارع اللغة) هي المرحلة التي جعلته يعبر الى فضاء آخر رغم انه مازال معلقا بحبال الشك والحيرة:( يصاحبه احد الحائرين، يشك في تأملاته، يشك في الفرق بين حشائش المستنقع وحشائش الفضاء) ص13، ولننظر الى هذه الصورة الرائعة لمرحلة الشك هذه. لنتأمل كيف صورها الشاعر( يشك في الفرق بين حشائش المستنقع وحشائش الفضاء) اذن هو ما زال لا يعرف هل هو في مستنقع سيغرق في وحله؟ ام انه تحول الى طائر يسبح في الفضاء، ولا احسب ان صورة اروع من هذه تعبر عن الحالة التي هو فيها. وتتوالى افعال الشك هذه حتى تفضي الى سؤال حائر: (فمن أين يدخلها؟ ربما هناك طريق ثالثة، اين؟).
مع الحرف الاخير(م) كانت هناك نظرة الى الخلف، نظرة استطلاع لما حل في مدينة الطفولة (القلعة) حيث فتيانها المطوقين بالمحو (محو هناك، لا طريق في الميدان، لا طريق له… سوى العناكب التي تمتص ضياء الكلام). اذن فلا عودة لتلك المدينة و( سيبقى في طريقه حتى يسقط التمثال الخفي).
واذا كان نصه الاول بدأ بسكونية الجملة الاسمية فان نصه الثاني(بيت فوق طيران الصقور) والذي ذيله بتاريخ نيسان 1991، هذا التاريخ الذي ينز الدم والخراب من بين مسامات ساعاته في اغلب مدن العراق والجنوبية منها خاصة، لا يمكن للسكون ان يعبر عنه بشكل جلي فكانت الجملة الفعلية بكل حركتها ودلالتها هي البادئة ( فاض دمٌ فاختنق الهواء) فهذا الفيضان الدموي سبب في اختناق الهواء، ولكن كيف يختنق الهواء!؟ والواقع اني لم اجد جملة ممكن ان تعبر عن نتيجة فيضان الدم بمثل هذه الجملة، فهي كناية تسع العديد من صور المعاناة والخوف والموت و…،و…الخ من الصور المربكة لمخيلة الشاعر ليضعها بعد ذلك في جملة تختصر هذه الصور المزدحمة هي: ( جثث طافية) وسواء كانت هذه الجثث بـ(حياة) ام بدونها لاشك انها ستكون مفرغة من ثقلها الداخلي، ستكون مجرد خواء يحمله الفيضان اينما شاء وكيفما شاء. وسأضع سؤالا هنا: هل كانت هذه الصورة تناصا مع صورة طوفان نوح ام ان هناك تشابه في النتائج؟ نتائج طوفان الجثث. رغم ان فرق الثانية عن الاولى ان الاولى قد تكون تلك الجثث حية بمعناها البيولوجي، او هي تشمل الاثنين: الحية وفق هذا المعنى، والميتة، بينما في الثانية هي خالية من الحياة. غير ان التشابه الدقيق بينهما هو يكمن في المعنى الفعلي للحياة.
وما يلاحظ في هذا النص هو هذه الحركية المتسارعة التي خلقتها الافعال وخاصة في بدايته، وكأنه يريد ان يخرج من ذلك العالم الممتلئ بالرعب والقلق، ولذلك يلجأ الى التعبير عنه بصيغة الفعل الماضي وخاصة فيما يتعلق بحركة الشاعر الخارجية والداخلية، بينما تكون الافعال المضارعة او الجمل الاسمية هي السمة الغالبة لحركية وسكون ما حوله، ان نصا من ثمان صفحات يتحرك بما يقارب مئة وعشرين او اكثر من الافعال الماضية ونصفها او يزيد من الافعال المضارعة مضافة لها بما يقاربها من الاسماء الدالة على الفعلية، هو بالتأكيد نص مترع بالحركة، هذه الحركة المضطربة والقلقة في معظمها، هي انعكاس لكمية الاضطراب، والقلق الذي كان يعاني منه الشاعر في خضم تلك الاجواء.
فالشاعر في هذا النص يرسم تلك الاجواء ليس في التعبير الكلامي الوصفي المجرد فحسب، وانما في التفاعل النفسي المجسد لوقع حركتها وتدافعها.
( بعري الكلامِ سرت عابراً نهري. عناية الطير شملتني فتبعتها حتى مررت بأناسٍ، رؤوسهم في الظلام بيضٌ. صعدتُ نحو المئذنة. لا أحد معي. الصقورُ حلقت فوقي، أرعبتني العاصفةُ، شلتْ قدمي ولم أنظر. رفعتُ رأسي أحصيهم، واحداً، واحداً. ثلاثون صقراً كتموا مصيري.) ص20
على هذه الوتيرة وهذا التدفق سار هذا النص في تصويره لتلك الاجواء المضطربة.
لقد كان اختياري لهذين النصين في قراءتي لهذه المجموعة كونهما يصوران حالة واحدة هي حالة الرعب والقلق والاضطراب الفردي والمجتمعي في اعقاب ما سمي بـ ( انتفاضة 1991) والتي اعقبت كارثة انكسار الجيش العراقي في الحرب التي اطلقت عليها قوات (التحالف) اسم ( عاصفة الصحراء). هذه الانتفاضة التي راح ضحيتها الآلاف من العراقيين في المقابر الجماعية وغيرها، والتي ما زالت آثارها النفسية راسخة في بواطن الكثير ممن عايشوها، وعاشوا لحظات الخوف وانتظار المجهول فيها، واجزم ان زعيم نصار ابدع في تصوير تلك التفاعلات والانفعالات النفسية، وحالة الخوف والترقب المرعب التي عاشها الكثير ممن كانوا قريبين من مواقد جمرها.