حسن حنفي: الثورات العربية من الربيع المخملي إلى الاستبداد العسكري *

حاوره: منصف السليمي

يرى المفكر المصري حسن حنفي أنه من السابق لأوانه الحكم بفشل ثورات الربيع العربي، لكن هذه الموجة الثورية باتت تتأرجح بين الاستبداد الديني والاستبداد العسكري وشدد في الحوار التالي على أن ثورة ثالثة في الأفق ستأتي، وهي «ثورة الجياع»، كما عرض رؤيته لإصلاح الفكر الديني السائد.
يقدم حنفي قراءة نقدية لمسار التيارات الإسلامية في العالم العربي وتجربة الإخوان المسلمين في مصر. لكنه ينتقد ملاحقتهم وزجهم في السجون بدعوى «حماية أمن الدولة والاستقرار»، كما يعترف بصعوبة إيجاد بديل إسلامي متفتح لهم بسبب هيمنة تيار خريجي السجون في الساحة المصرية وهيمنة الدولة على المؤسسة الدينية.
هنا حوار معه في مراكش على هامش مشاركته في ملتقى فكري نظمته مؤسسة»مؤمنون بلا حدود» (مؤسسة للأبحاث والدراسات مقرها الرباط)، إذ جرى تكريمه بوصفه أحد رواد فكر التجديد في الدين الإسلامي من منظور معاصر، مستلهماً فكرة حركة الإصلاح الديني التي أطلقها مارتن لوثر في ألمانيا في بدايات القرن السادس عشر.
وقد تعرض حنفي بداية الثمانينيات من القرن الماضي إلى حملات تكفير من قبل جماعات أصولية. كما تعرضت مؤلفاته الفكرية في عهد حكم جماعة الإخوان المسلمين سنة 2012 إلى محاولات مصادرة، إضافة إلى اتهامه بالتكفير من قبل مجمع بحوث تابع للأزهر، قبل أن يتم التراجع عنها بحكم قضائي.
وفيما يلي نص الحوار:

* هل هناك إمكانية لتطبيق العلمانية في العالم العربي والإسلامي من دون إصلاح ديني؟
– لا يمكن تحقيق ذلك؛ لأن العلمانية إذا سمعها الشعب رفضها منذ البداية، حتى من دون أن يسأل ما تعني. فهي تعني الاتجاه للعالم، ألم يقل الرسول محمد «أنتم أعلم بشؤون دنياكم»؟ رداً على سؤال طرح عليه بشأن تأبير النخل، كونه مسألة علمية زراعية. إن المفهوم السائد عن العلمانية كونها فصلاً للدين عن الدولة أو إلحاداً أو تبعية للغرب، وهذا خطأ لأن اللفظ ليس له فقط معنى اصطلاحي.
Saeculum باللاتينية أو Secularism، لا تستطيع أن تأخذ معناه من القاموس، بل من المفهوم التداولي لهذا اللفظ عند الناس. كما أن البحث عن جذور العلمانية في الإصلاح الديني، موقف يرفضه السلفيون. فالإصلاح الديني منذ عهد جمال الدين الأفغاني، بمعنى الثورة ضد الاستعمار وتوحيد الأمة، للأسف لم يستمر طويلاً نظراً لفشل العُرابيين، عبر أحمد عُرابي تلميذ الأفغاني، في مواجهة البريطانيين سنة 1882.
وعندما قامت ثورة 1919 وقامت نهضة من جديد بزعامة سعد زغلول، وهو من تلاميذ الأفغاني، ثم قامت الثورة الكمالية (نسبة إلى كمال أتاتورك) في تركيا سنة 1923، فخشي رشيد رضا أن تتكرر التجربة العلمانية في بقية أنحاء العالم الإسلامي بعد أن سقطت الخلافة، فارتد سلفياً ثم جاء حسن البنا، تلميذ رشيد رضا، وبدأت العلمانية تأخذ معنى سلبياً؛ لأن الحركة الإسلامية تعرضت للسجون إثر ثورات الاستقلال العربية.
*كيف يمكن إذن إعادة الأمور إلى نصابها بعد كل ما حدث؟
– الأفضل هو إقالة الحركة الإصلاحية من عثرتها والرجوع بها إلى جذورها عند الأفغاني، وإنهاء ردود الأفعال على الثورة الكمالية في تركيا وعلى الثورات العربية الأخيرة، والبدء من جديد بطرح سؤال بسيط: ما التحديات الرئيسة المطروحة أمام الأمة وما أدواتك لمواجهتها؟ وهي برأيي سبعة تحديات رئيسة، يمكن الاعتماد على وسائل من التراث لتحقيقها:
أولاً: تحرير الأرض – فلسطين- بوصف الأرض جزء من الألوهية، فقد أضعنا نصف فلسطين في حرب 1948 في العصر الليبرالي وأضعنا النصف الثاني في هزيمة 1967. إن تحرير الأرض قضية رئيسة، وقد فضل العرب أن يوضعوا في السجون في سبيل تحرير الأرض، وفي أثناء العدوان الإسرائيلي على مصر سنة 1956، طلب الإخوان المسلمون والشيوعيون من عبد الناصر إخراجهم من السجن، ودافعوا عن بور سعيد. وبعد خروج إسرائيل من الأراضي المصرية، قالوا لعبد العناصر أعدنا من جديد للسجن؛ لأن تحرير الأوطان له أولوية مطلقة على الخصام السياسي، ومن السهل أن تعالج ذلك عن طريق التراث وعن طريق الكتاب والسنة، حيث تقول الآية الكريمة: «إله السماوات والأرض» و»وهو الذي في السماوات إله وفي الأرض إله»، فالأرض جزء من الإلوهية. ولذلك فان من يريد أن يصالح الأعداء ومن يريد أن يعترف بوجود شرعي لإسرائيل، كل ذلك لم يعط لإسرائيل الأمان، لأن اليهود عاشوا أزهى عصورهم مع العرب في الأندلس، وكان ذلك عصرهم الذهبي في الثقافة والطب والرياضيات والفلك واللغة.
ثانياً: تحرير المواطن؛ لأن المواطن لا يمكن أن يفقد حريته «كيف استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً».
ثالثاً: توحيد الأمة. إذ أنه ليس من المعقول أن الأوروبي يدخل في مطار القاهرة وفي مطار أي دولة عربية بكل ترحيب، في حين أنا (كمواطن عربي) أوقف بالساعات في طابور لكي يعرفوا وضعي الأمني وهل أنا مطلوب أم غير مطلوب. وبينما يتنقل الأوروبي بين دول الإتحاد الأوروبي من دون جواز سفر، يقف المواطن العربي بطوابير ولساعات، لأن صورته السائدة كمهاجر أو مهرب أو إرهابي. ولا فرق بين أستاذ وشخص باحث عن العمل.
رابعاً: العدالة الاجتماعية. إن أفقر فقراء العالم منا، وأغنى أغنياء العالم فينا، وهذا وضع لا يرضي أحداً، لا في الكتاب ولا في السنة ولا في التاريخ ولا غيره…
خامساً: التنمية. ليس من المعقول أن 70 % من الغذاء في العالم العربي يأتي من الخارج، في حين لدينا مياه دجلة والفرات والنيل، ولدينا الأراضي، ولدينا السدود وخزانات المياه، ولدينا الأيادي العاملة، ونتوفر على الخبرة الزراعية..
سادساً: قضايا الهوية. إن المتأمل في أي مدينة عربية ينتابه العجب، فهل هو في مدينة عربية أم أجنبية أم خليط بينهما؟
سابعاً: الجماهير وكيفية حشدها بطرق سلمية من أجل قضايا الأمة…

*تحت وطأة نزعات التطرف والعنف التي تأخذ صبغة إسلامية أو طائفية، ترتفع الأصوات الداعية إلى تحييد الدين بشكل تام عن شؤون الدولة المدنية، لكنهم يصطدمون بالمؤسسة الدينية التقليدية وكذلك بنفوذ الحركات الإسلامية في الشارع، فما العمل، وهل هنالك مدخل لمعالجة هذه الإشكالية من داخل المجال الديني؟
– هذا تصحيح خطأ بخطأ. إن ربط الدين بالإرهاب، لكونه مظهراً لتداخل بين الدين بالسياسة، هذا تصوير خاطئ للمسألة. كما أن محاولة الفصل بينهما، أو جعل الدولة لها اليد الطولى في أمور الدين، هذا خطأ آخر. لا يوجد مفهوم مطلق للإرهاب، فالدولة تمارس الإرهاب عندما تضع مواطنيها في السجون، حاليا هنالك زهاء 24 ألفاً في سجون مصر. وقد كانت السجون باستمرار مليئة بالخصوم السياسيين.
إن ما يُسبب الإرهاب هو إحساس المواطن المسجون بأنه عُذب ظلماً. انظر إلى حياة سيد قطب، الذي كان شاعراً وناقداً أدبياً من أنصار الحداثة وأنصار العقاد، وهو من أوائل من كتبوا عن نجيب محفوظ، وعندما أتت الثورة المصرية في 1952 استدعاه جمال عبد الناصر ليكون رئيساً للتحرير وسمح له بالأحاديث في الإذاعة المصرية، وكتب «العدالة الاجتماعية في الإسلام» و» معركة الإسلام والرأسمالية» و»السلام العالمي والإسلام»، ولكنه في نهاية المطاف وبعد تعرض للتعذيب كتب «معالم في الطريق» الذي يكفر فيه المجتمع، وللأسف نسي الناس أعمال سيد قطب الأولى ولم يقرؤوا إلا كتابه الأخير»معالم في الطريق».
إن ما يصطلح عليه بالإرهاب هو رد فعل على فعل وليس فعلاً (من صفر)، وبالتالي فان بناء المجتمع الديمقراطي والمدني الذي يؤمن بالرأي والرأي الآخر، هو السبيل للتخلي عن الإرهاب. أما الفصل بين الدين والدولة، فهذا هو الأنموذج الغربي، الذي أخذوا به بعد فشل محاولات فكرية كثيرة في إصلاح الكنيسة، إلى أن جاء المصلح مارتن لوثر ودعا إلى حرية المسيحي في مواجهة سلطة الكنيسة، كسبيل لإصلاح الفكر المسيحي…

*ولماذا لا يحدث إصلاح في الإسلام على غرار إصلاح لوثر في المسيحية أو سبينوزا في اليهودية؟
– لأنه لا توجد سلطة في الإسلام، ولا توجد كنيسة في الإسلام، فلا الأزهر ولا مشيخة العلماء ولا الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، لا سلطة دينية لهم. فالسلطة الوحيدة هي سلطة العلم، والعلم فردي لأن العلم في رأس العالِم، ولذلك لا توجد أي هيئة دينية لها السلطة، وحتى المذاهب الأربعة فهي متعددة. ولذلك لا توجد ثورة، كما حدث عند مارتن لوثر ضد الكنيسة في المسيحية أوعند سبينوزا ضد الكنيس في اليهودية، لأن هنالك سلطة دينية في المسيحية واليهودية، أما الإسلام فلا سلطة فيه.
والسلطة التي نشأت هي سلطة سياسية منذ عهد الأمويين، عندما استدعى معاوية العلماء ووضعهم بين الجزر والعصا، حتى يجبر الناس على تولية ابنه يزيد. واستمرت المؤسسة الدينية عبر التاريخ الإسلامي كجزء من الحكم، حتى الآن، حيث تُعين الدولة شيخَ الأزهر، كما تُعين شيخَ مشائخ الطرق الصوفية. ولم يصدر شيخ الأزهر قراراً مخالفا للسلطة. ففي أثناء الجمهورية الأولى، بعد حرب 1967 وإثر مؤتمر القمة العربية في الخرطوم الذي صدرت عنه اللاءات الثلاث: لا صلح، ولا مفاوضات، ولا اعتراف بإسرائيل، أصدر الأزهر بياناً وفتوى بأنه لا يجوز الصلح ولا المفاوضات ولا الاعتراف بإسرائيل. وعندما ذهب رئيس الجمهورية الثانية (محمد أنور السادات) إلى تل أبيب وأبرم اتفاقيات كامب ديفيد سنة 1978 ثم معاهدة السلام سنة 1979، أصدرت مجموعة المشائخ ذاتها من المؤسسة نفسها (الأزهر) بياناً وفتوى تقول»وإن جنحوا للسلم فاجنح لها». فمن تصدق؟ إذن فالعالِم هو فقيه السلطان.

*من خلال قراءتك لمسار سيد قطب، هل تتوقع أن يفرز وضع آلاف من الإخوان المسلمين في السجون إلى إعادة إنتاج تفريخ جماعات متطرفة وعنيفة جديدة، على غرار ما حدث قبل ثلاثة عقود. أم أن الأزمة الحالية التي تواجههم (الإخوان) ستدفعهم إلى مراجعات وتغيير عميق ويتجهون إلى تدشين تجربة سياسية مختلفة على غرار حزب العدالة والتنمية في تركيا مثلاً؟
– هنالك محاولات لإقامة بدائل إسلامية لهذه الجماعة الكبرى، وتمت مراجعات في السجون وصدرت عنها 8 كتيبات صغيرة، لكن كان الأمن وراءها، حيث استدعى جزءاً من هذه القيادات إلى المؤسسة السياسية للدولة. وهنالك الآن مجموعة من الشباب يرفضون العنف ويحاولون تأسيس حزب جديد من قبيل حزب العدالة والتنمية، ولكنهم يحاورون الدولة والمؤسسة السياسية الرسمية.
ولكن حتى الآن، لم يوجد تيار إسلامي قوي، يعطي البديل للتيار الإسلامي القائم لأن الظروف لم تهيئ لنشأة مثل هذا التيار. وأصبح بالتالي الآن التيار الغالب، هو تيار خريجي السجون الذي يصعب نفسياً أن تطلب منه أن يكون سياسياً حاضناً ومحاوراً لبقية التيارات.

*هنالك قراءات كثيرة داخل العالم العربي وفي الغرب أيضاً، تقول إن الربيع العربي انتهى. هل هذا سابق لأوانه وأن المرحلة الانتقالية قد تطول، أم أننا بصدد مرحلة جديدة يقودها منطق سيطرة الدولة في مواجهة تيارات العنف؟
– لا تهمني كثيراً أحكام الغرب على شأن الربيع العربي، ولكن يهمني مصير الربيع العربي في الداخل، وحكم العرب على أنفسهم. ففي الغرب، يغيرون أحكامهم ومواقفهم طبقاً لمصالحهم.
لكن يهمني أن أبين أنه بما أن الربيع العربي سيظل يتأرجح بين الاستبداد العسكري والاستبداد الديني، فستضيع مبادئ ثورة «25 يناير» الأربعة وهي الخبز والحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية.
وفي ظل وضع ترتفع فيه الأسعار بطريقة رهيبة والغلاء يزداد والرواتب تتجمد، والتفاوت بين الأغنياء والفقراء يشتد، فان ثورة الجياع قادمة، فهؤلاء الذين قاموا تلقائياً بشرعية ميدان التحرير في «25 يناير» 2011 وسئموا من كلام السياسيين والعسكريين، سيقومون يوماً لاسترداد حقهم بأيديهم. المهم أن لا نكرر التجربة ويقع تيار واحد من جديد فوق السلطة، فوق الثورة الثالثة، فوق ثورة الجياع ويستبد من جديد باسم الأمن والاستقرار في الدولة أو باسم الحاكمية لله.
أعتقد أن الناس تعلموا وهم شعورياً ينتظرون بارقة أمل جديدة.

*عن موقع قنطرة

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة