يستعمل مصطلح النظرية النقدية في العلوم الاجتماعية ليشير الى نظريتين مختلفتين من حيث النشأة والتاريخ.
من حيث التاريخ فان النظرية النقدية نشأت او انبثقت من النظرية الاجتماعية اما النشأة فانبثقت من النقد الادبي.
التطورات التي طرأت على مناهج العلوم الاجتماعية والعلوم الإنسانية استطاعت ان تزيح بعض الفوارق والحواجز ما بين النظريتين، وأصبح هناك تداخل بين النقد الادبي الذي يدرس بنية النص وبين الدراسات التي تتعلق بالمجتمعات البشرية والأنظمة التي تسود فيها.
وبناء على ما تقدم فان مصطلح النظرية النقدية بات شائعا جدا، إضافة لكونه مصطلحا واسعا يغطي مجالا واسعة من النظريات العلمية التي تتناول منهجية دراسة العلاقات بين المكونات سواء كانت مكونات أدبية نصية أم مكونات اجتماعية أنثربولوجية وهي غالبا ما تندرج ضمن نظريات ما بعد الحداثة.
رسم آلن هاو في كتابه النظرية النقدية الخطوط العريضة لما بذله هور كهايمر من جهود أولى بوضع نظرية ديالكتيكية تقف إزاء نظرة سلفه غرونتبرغ الوضعية “الاستقرائية”، غير ان النظرة الديالكتيكية التي قدمتها النظرية النقدية لم تقتصر على الماركسية الوضعية حسب، بل تعداها أيضا الى وجودية تلك الفترة.
ويستكشف هاو في فصل آخر الطريقة التي سعى من خلالها يورغن هايرماز منذ أواسط ستينيات القرن العشرين الى إعادة بناء النظرية النقدية في اتجاهات تتغلب على التشاؤم والتناقض في اعمال اسلافه.
يذكر هاو انه في فصول الكتاب أراد ان يكشف للقارئ أوجه النظرية النقدية المختلفة، مشيرا الى طبيعتها المبرقشة متعددة الألوان، وتطورها التاريخي، غير ان اهم ما آمله ان أكون قد أشرت إليه هو صلتها بالراهن.
تأليف: آلن هاو
ترجمة: ثائر ديب
الحلقة 17
نقد غيدنز:
في كتابه الحداثة وهوية الذات (1991)، يوبخ انطوني غيدنز أطروحة لاش على تقليلها من قيمة القوة التي تتسم بها فاعلية الذات الإنسانية. كما يقدم فكرة مفادها أنّ ما يّميز الحداثة المتأخرة، التي يضعها قبالة ما بعد الحداثة، هو مرونتها. وهو يضع “الحداثة المتأخرة” قبالة “ما بعد الحداثة” وعلى الضد منها لا يرى إلى خائصها وسماتها على أنها امتداد للعالم الحديث واستمرار له، لا على أنها تشكل قطيعة معه.
فثمة خصائص أساسية ثلاث تميز الحداثة المتأخرة: “انفصال الزمان والمكان”، “تقلقل المؤسسات الاجتماعية”، و”إعادة النظر”. ويشير انفصال الزمان والمكان إلى تغيرات تقف وراءها القدرة على تنسيق “النشاطات الاجتماعية دون أن يكون من الضروري الرجوع إلى خصوصيات المكان أو الإشارة إليها”. فالطبيعة الآنية الفورية التي تميز الاتصال الجماهيري في العالم الحديث المتأخر تعني إنتهاء الشعور بأننا مقيدون، في فهمنا للعالم، إلى النقاط المرجعية الخاصة بمكان محدد. حيث يمكننا، كل يوم، أن نتواصل على أساس عالمي، ونُجري تعاملاتنا الشخصية أو المالية بكبسة على فأرة الحاسوب، ما يعني أن البشر والأمكنة التي كانت متباعدة من قبل صار من الممكن استحضارها إلى حياتنا مباشرة في التو واللحظة. ولا عجب إذ أن يقل التزامنا بمحلية أخلاقية محددة. وهذا ما يعنيه غيدنز بتقلقل المؤسسات الاجتماعية، الأمر الذي يصفه بأنه “انتزاع” العلاقات الاجتماعية من سياقاتها المحلية وإعادة الإفصاح عنها عبر مسارات زمانية ومكانية لا نهاية لها.
اما الخاصية الثالثة، إعادة النظر، فتشير إلى تعرض معظم أوجه النشاط الاجتماعي والعلاقات المادية ومعها الطبيعة، إلى “مراجعة مستمرة في ضوء المعلومات والمعارف الجديدة” (1991: 20). وما يعنيه غيدنز هنا هو أن علينا ألا نكّف عن مراجعة حياتنا تبعاً للتغيرات الحاصلة في المعرفة. ففي حين كان أمل التنوير أن يضمن المعرفة الحقة مرة وإلى الأبد، علينا الآن أن نتقبل غياب اليقين فيما يتعلق بالمعرفة، وأنها سيرورة ذات نهاية مفتوحة وليست سيرورة اكتشاف نهائي وأخير. ويمكن أن نورد مثالاً على ذلك تلك الأزمة التي نشبت في بريطانيا مؤخراً بشأن “مرض جنون البقر”. والغريب أن غيدنز يميز بين هذا النوع من المرونة واستخدامه السوسيولوجي الأكثر شويعاً كرقابة ذاتية تمارسها الذات الإنسانية. ووجه الغرابة هو أنّ ما يصفه غيدنز بكل وضوح إنما يتعلق بما يحدث للبشر.
غير إن غيدنز يقدم نتائج “العولمة”، التي هي ما يتحدث عنه في جوهر الأمر، من حيث ما تعنيه بالنسبة للعلاقات البشرية. فقد أتاح خرق التقليد بروز “علاقة صرفة”. والعلاقة الصرفة هي علاقة لا تقوم إلا على الحميمية والثقة، ولا تعوقها الدعائم التقليدية في العائلة، والقرابة، والاعتبارات الاقتصادية: “لإنها تعوم بحرية” (غيدنز 1991: 89). والالتزام بين البشر يتوقف بصورة كلية على التوظيف الذي يوظفه كل منهم في العلاقة ولا يقوم إلا “من أجل ما يمكن أن تعود به العلاقة على الشركاء المعنيين”. وهو التزام قائم أيضاً على إعادة النظر، بمعنى أنه يحتاج إلى مراقبة دائمة؛ إلى نوع من التفحص المتواصل لمقدار أهميته وجدارته بالعناء بالنسبة لكلا الطرفين.
ويقوم النقد الذي يوجهه غيدنز للاش على هذه الملاحظات المتصلة بـ”العلاقة الصرفة”، التي يطريها ضمنياً. فهو ينتقد لاش، ومن ورائه هوركهايمر وأدورنو، على الطريقة التي ينظرون بها إلى الفرد على أنه “سلبي بالعلاقة مع القوى الخارجية الطاغية”. فنظرة لاش تخفق في التقاط طبيعة التمكين الإنساني، تلك الطريقة التي “يرتكس بها البشر إزاء الظروف الاجتماعية التي يجدونها ظالمة”. فلعلنا نعيش في مجتمع “خطر”، لكن ذلك لا يعني أننا لا نستطيع أن نتدخل فيه. ويستشهد غيدنز بعمل جوديت ستيسي (1990) على الروابط بين عوائل الطبقة العاملة في وادي السيليكون في كاليفورنيا. فالبيئة الاجتماعية للحياة الزوجية قد غدت “مولدة للاضطراب وانعدام الاستقرار” بالفعل؛ والزواج لم يعد مستقراً، ولا تقليدياً. غير أنّ البشر لا يستسلمون لذاك، كما يفعل النرجسي الذي يتكلم عليه لاش، بل يقيمون أشكالاً جديدة للعلاقة. فهم يعيدون بنشاط وفعالية بناء “أشكال جديدة من الجنوسة والعلاقة القرابية انطلاقاً من حطام أشكال الحياة العائلية التي كانت قائمة من قبل (1991: 176-177). وهذا تطور يتحدى، كما يرى غيدنز، زعم لاش أنّ النرجسي يستخدم العلاقات كآلية من آليات الدفاع كيما يعوض عن مشاعر الفراغ وغياب تقديره لذاته.
والحال، إن من الصعب أن نرى كيف يمكن اعتبار ما يقوله غيدنز نقداً للاش. فهذا الأخير، شأنه شأن أدورنو، لا يزعم أن النرجسي ينسحب من العالم بالمعنى العادي للكلمة. بل إن النرجسيين، على العكس من ذلك، يهتمون بشؤون الدنيا وينخرطون فيها، فهم يتباهون بمظاهرهم، وبما يمتلكونه من براعة في إثارة إعجاب الآخرين، ولا شك أن لديهم موقفاً خلاقاً من العلاقات، نظراً لقدرتهم على التنقل “بصورة خلاقة” من علاقة إلى أخرى.
إنهم في العالم إلى حد بعيد. وهم يستخدمون ما يوفره العالم لهم لكي يحموا أنفسهم منه، بدل أن يستخدمو ذلك لتغيير العالم أو أنفسهم.
وحين يرى غيدنز أن إعادة بناء الحياة العائلية على أسس غير تقليدية تناقض قول لاش إنّ النرجسية الثقافية تثير إحساساً متوانياً بالزمن التاريخي، وتسدّ إحساسنا بأنّ هنالك ماضياً ومستقبلاً فيما نحن منغمسون في الحاضر، فإن غيدنز يناقض نفسه. فليس يعمل ستيسي وحده الذي يشير إلى أن تقلقل بيئة العمل في وادي السيليكون يؤدي إلى إحساس مهلهل وقصير الأجل بما يمكن أن تكون عليه علاقة ما؛ فآراء غيدنز نفسه عن التفلت من المحلية، وانفصال الزمان- المكان، وبزوغ العلاقة الصرفة، إنما تشير إلى الاتجاه ذاته. ذلك الاتجاه الذي مفاده أن التزامنا بالزمان والمكان، وبالبشر الآخرين قد غدا متسماً بالهشاشة.
وينتقد غيدنز أيضاً قلة أهتمام لاش بالعلاقة بين الذات والجسد. ويعتقد غيدنز أن الجسد لم يعد من الممكن الإكتفاء بـ”قبوله”، وتغذيته والهيام به على الطريقة التقليدية، بل ينبغي أن يغدو الآن جزءاً جوهرياً من مشروع هوية الذات المرن. ذلك إن سيرورات التشظي، التي تسم الحداثة المتأخرة، قد قوضت التقليد. وبذلك غدا ما ينبغي أن نبدو عليه وما ندل عليه مسألة اختيار لأسلوب الحياة. وبذلك غدا ما ينبغي أن نبدو عليه وما ندل عليه مسألة اختيار لأسلوب الحياة. فعند غيدنز، أنّ خيارات أسلوب الحياة تتعلق بالجسد، والانطباعات التي نتركها إذ نرتدي ملابس محددة، وصورة جسدنا وقدرتنا العضلية، وكل ذلك يقتضي أن نختار بين بدائل. وواقعة أننا نختار هي ما يقود غيدنز إلى رؤية أنّالذوات الإنسانية منخرطة بنشاط في عملية خلق هوية الذات، الأمر الذي يجعلها تالياً بعيدة عن النرجسية. ومرة أخرى فإن لاش وأدورنو لا ينكر أن النرجسي سوف يسعى إلى إبراز صورة كيما تقيم هويتها، كما لو إنّ الهوية مؤقتة وقابلة للعطب مثل معدات جديدة، وليست ذلك الأمر المختلط المتسم بالفوضى، والمتمعج المتعرج في بعض الأحيان، كما تشير أعمال فرويد.
والحال، إن غيدنز يدرك للحظة أن لا خيار أمامنا سوى أن نختار. وكما يقول، فإنَّ “الحسم بين بدائل ليس خياراً، بل عنصر متأصل من عناصر بناء هوية الذات” (1991: 178). والمسألة هنا ليست إن غيدنز على خطأ من حيث التوصيف، بل إن تناوله يتسم بأنَّه جزئي؛ ذلك أنَّ الهوية تنطوي من غير شك على ما هو أكثر بكثير من خلق المظاهر. وإذا ما كانت واقعة علينا أن نسعى وراء صورة للذات، بدل ان يزودنا بها التقليد، أو الطبقة، أو النوع الجنسي، تبدو ضرباً من التحرر، فإن ذلك ليس إلا في عالم متشظ يقطنه مستهلكون منعزلون. وما يخدع غيدنز هو الفكرة التي مفادها أنّ هذا الشرط يمكن أن يكون شرطاً إيديولوجياً على نحو عميق يخدم مصالح الرأسمالية.