الافلات من العقاب

عنوان بمقدوره مساعدتنا في التعرف على علل تطور المجتمعات والدول أو انحطاطها، فالبلدان التي تسود فيها سلطة القانون والتشريعات التي تنتصر لكرامة الانسان وحقوقه وحرياته (وحيث القانون لا يمييز بين أولاد الست واولاد الجارية) تزخر بالاستقرار والرقي والازدهار. وعلى العكس من ذلك في المضارب التي تعصف بها هذه اللعنة (الافلات من العقاب) وبنحو خاص للمنتسبين لنادي (الست) الذين لا يفلتون مما ارتكبوا من جرائم وانتهاكات وحسب، بل يتم الاحتفاء بهم ومكافئتهم على ما اقترفوا من جرائم. وهناك الكثير من الامثلة على ذلك في تاريخنا القديم والحديث، على سبيل المثال لا الحصر جريمة قتل الملك فيصل الثاني والعائلة الملكية، حيث بقى القتلة احرارا من دون أي مسائلة قانونية. مثل هذه المواقف البعيدة عن الحكمة والمسؤولية شرعت الابواب أمام عهد جديد من الجرائم والانتهاكات، حيث تم اغتيال وتصفية المئات من بنات وابناء هذا البلد، وبعد اغتيال مشروع الجمهورية الاولى تم قتل زعيمها وابرز قادتها بعد ساعة من استسلامهم للانقلابيين داخل الاذاعة العراقية بشكل وحشي ومن دون محاكمة، ليجد العراقيون أنفسهم أمام طوفان من الجرائم التي شملت طيف واسع من أفضل ما أنجبه العراق من شخصيات وملاكات مدنية وعسكرية. بعد الاطاحة بالانقلابيين لم يدفع أي منهم ثمن ما ارتكب من جرائم وانتهاكات، ليس هذا وحسب بل عادوا ثانية الى السلطة ليدشنوا عهدا لا مثيل له من الجرائم، ظلت حتى يومنا هذا من دون حساب، وحتى محاكمة المسؤول الاول عن النظام المباد فقد كرست لصالح قضية ذات طابع حزبي ضيق (الدجيل) وعلى حساب كم هائل من الملفات ذات الطابع الوطني والانساني والقانوني.
البعض ممن أدمن على مثل هذه التقاليد (الافلات من العقاب) يستهجن ويستغرب ما تتضمنه التقارير الدولية من ارقام واحصائيات تضع العراق على رأس قائمة الدول الاكثر فشلاً وفساداً، من دون أن يكلف نفسه في الالتفات لهذا الملف المنسي الذي نخر كل تفاصيل حياة الدولة والمجتمع، وحيث سلطة السلاح المنفلت والجاهزة لطمطمة كل أشكال الجرائم والانتهاكات التي يرتكبها الجيل الجديد من أولاد الست. لقد تم اغراق ما يفترض انها مرحلة للعدالة الانتقالية؛ بكم هائل من الجرائم المرفقة ببيانات تتصدرها عبارة (لم يتم التعرف على الجناة) حيث تلتحق الجرائم الجديدة بتلك الأضابير المسؤولة عن استمرار وديمومة كل هذا الخراب (المدعوم بسلسلة من قوانين العفو العام) وانسداد الآفاق الذي نعيشه رغم مرور أكثر من 16 عاماً على زوال النظام التوليتاري. تقول حنة ارندت في بحثها حول المراحل الانتقالية التي تمر بها المجتمعات: “ان التوافق على وقائع التاريخ المشترك يعد شرطاً جوهرياً للحرية”. وعلى رأس ذلك التوافق، تحتل الجريمة والموقف منها موقع الصدارة فيه، فمن دون الاتفاق على تنفيذ العدالة عبر التأسيس لنظام قضائي عادل ومستقل في التعاطي مع هذا الملف؛ تتهاوى كل الجهود والخطط المرسومة لذلك.
في اثره الرائع “الجريمة والعقاب” يتصدى ديستوفسكي للاثر المدمر لـ “الافلات من العقاب” لا على هضم حقوق الضحية وحسب، بل على توازن الجاني ومن ثم استقرار وتوازن المجتمع، حيث الجريمة لا تتفكك كما هي العدالة، والتي يفترض ان تاخذ طريقها الى الجناة ومنتهكي القانون من دون تمييز على اساس المواقع والسطوة والنفوذ. من دون ذلك يعني ترك أبواب الوطن مشرعة لاستقبال انتهاكات واهوال أشد استهتاراً ووحشية مما سبق …

جمال جصاني

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة