على مدى عقود من الزمن الف العراقي التعايش مع مظلوميات متعاقبة ولم تكن العلاقة بين السلطة والمواطن على وفق سياقها القانوني العادل بل تحكمت فيها اهواء السلطة وجبروتها وفرضها لإرادتها حتى مع زوال الاحتلالين العثماني والبريطاني ولطالما كانت لحظات الوعي مرتبطة بالنخب المثقفة التي ينتهي دورها إلى التبصير بمضامين الظلم والاستدلال على عناصر القوة لدى الشعب ومكامن الاستغلال والتهميش الذي يمارسه الحكام الفاسدون والتعريف بحقوق الشعب ولم يهنأ العراق بمنظومة سلطوية تمتلك من الوعي الحقيقي بما يكفي لتردم الفجوة بين الجهل والحضارة وتتحلى بالإنصاف والنزاهة كي تصنع السعادة للملايين من دون ان تكن لها غايات ومصالح داخلية او خارجية.
وكانت الفلسفة السياسية للأحزاب الحاكمة في الحكومات المتعاقبة هي ان تكرس المزيد من الهيمنة على مقاليد السلطة وان تثقف فئات الشعب بايدلوجيا السلطة وان تبعد اي اقتراب من مساحات الوعي التي يستطيع فيها المواطن توجيه الانتقاد او المطالبة بالتعديل او التصحيح للمسارات الخاطئة وهكذا استسلمت ارادات طبقات شعبية واسعة لهذه الهيمنة وتعايشت مع مظلوميتها وارتضت ان تكابد من احل لقمة العيش ومن اجل البقاء باي مستوى حياتي وسط صراعات دموية تمثلت بالانقلابات والحروب للاستحواذ والهيمنة على مقدرات الشعب العراقي.
ولم تبذل الطبقات الحاكمة اي جهد في تغيير نمط التفكير للملايين المسحوقة وبقيت تتفاخر بالإرث الحضاري للعراق في شماله ووسطه وجنوبه وماشيدته الحضارات المتعاقبة هناك ولم تدعم اي مبادرات لبزوغ عشرات الشعراء والأدباء والمثقفين والفنانين الذين خرجوا من مدن الملح المتعبة واستلهموا ابداعهم من هذا الإرث ومن هذه الجغرافية الرائعة وفي الوقت الذي تنامت فيه مظاهر البؤس والحرمان وشاعت فيه اعراف عشائرية اسهمت في تراجع مستويات الوعي وارتفعت معدلات الفقر وغابت معايير التنمية البشرية التي يمكن من خلالها النهوض بالواقع الخدمي لمحافظات الجنوب بشكل جعلها تبتعد عن منظومة التصنيف العالمي لجودة الحياة في المدن فجرى توصيف بعضها بالتخلف من دون الانتقاص من موروثها الحضاري ومن دون بخس حق مظاهر الابداع او القفز على سفرها الاجتماعي الاصيل والقيم العالية التي يتحلى بها اهلها وحينما يدرك الشعب هذا التفصيل العميق لمستويات الوعي وهذا التشخيص لنقاط الضعف والقوة سيتفهم بالتأكيد بعض النعوت والتوصيفات التي يراد من ورائها تصحيح الاخطاء والثورة على الاعراف والتقاليد والفساد التي تريد ابقاء الاوضاع على ماهو عليه من دون اية مبادرات لتأصيل الوعي وشيوعه بين أكبر عدد ممكن من المواطنين وعدم قصره على فئة محددة وحينما نصل إلى هذه المرحلة سنقترب بالتأكيد من الحلول التي تصنع الرفاهية وتبعدنا عن مستويات التخلف بكل تصنيفاتها ومؤشراتها التي يعيب البعض نعته بها فيما هي موجودة على ارض الواقع ولا يستطيع اي واع نفيها
د. علي شمخي