الثقافة الغائبة

هذه المفردة (اللا عنف) تبلورت بنحو واضح من خلال نشاط وكفاح القائد الهندي البارز المهاتما غاندي. ولهذه الثقافة جذور عميقة تعود الى بدايات نشاط سلالات بني آدم في بناء المدنية والحضارة، وعبر الشوط الطويل من الكفاح الذي قادت فيه مسيرة الهنود من أجل الاستقلال اغتنت بمضامين كونية جديدة، مكنتها من ان تتحول سريعاً الى أحد أفضل المنظومات الفكرية والقيمية في خدمة بني البشر للخلاص من شر الاشتباكات الدائمة.
هذه الثقافة (اللاعنف) ومن سوء حظ سكان أقدم المستوطنات البشرية (الميزوبوتاميا) انها لم تحظ باستقبال لائق عند ممثلي الشعوب والقبائل والمللل وحسب بل قوبلت بازدراء واذلال بوصفها (شراً) لا يليق بهم وبمدونات فتوحاتهم التي وصلت طلائعها الى أسوار الصين، بعد ان عبرت حوافر خيولهم بلاد المهاتما قبل أكثر من ألف عام. وعلى الضد من ذلك كان أمرها مع أحدى أهم الحركات من أجل الحرية والكرامة مع الزنوج في أميركا وذلك القائد الذي ردد دائماً عبارته الشهيرة والتي تحولت الى نشيد كوني (عندي حلم) ذلك الحلم الذي تحول الى واقع اوصل باراك اوباما الى أعلى منصب في الولايات المتحدة. كل ذلك بفعل ادراك القائد الأكثر شجاعة وحكمة آنذاك مارتن لوثر كنغ للمغزى العميق لمنظومة (اللا عنف).
وبالضد من هذا السجل المشرق للفتوحات السلمية التي حققتها مسيرة اللاعنف لمريديها في كل بقاع هذا العالم المترامي والذي يزداد تراصاً، نحصد نحن سكان هذه المضارب المولعة بـ (لحظة اهتزاز الشوارب) وعجاج الغزوات الخائبة المزيد من الهزائم على شتى الصعد المادية منها والروحية. والعجيب في الامر ان هذه المجتمعات مازالت تنتج المزيد من هذه الأجيال المثقلة بكل ذلك الموروث من الكراهة والعنف وملحقاته من الانتصارات الوهمية والشموخ الاجوف، من دون أن تدرك ان هذه المستويات الواسعة من العنف والاحقاد تعكس حجم الذعر المتبادل بين كائنات مذعورة تتقافز عند حافات طريق لا يفضي سوى الى الانقراض. لقد كشفت تجربة أربعة عقود من نظام (جمهورية الخوف) عن ذلك الخلل الكبير في بنية المجتمع العراقي القيمية والسلوكية، تلك المنظومة التي أتاحت لحشد الكائنات المذعورة من التحول الى عصبة ابتلعت الدولة وشيدت أبشع نظام توتاليتاري عرفه تاريخ المنطقة.
غير القليل منا يحاول عبثاً الهرب من حقيقة ان هذا الكم الهائل من القسوة والعنف لا صلة لها بقيم الشجاعة والايثار، بل هي نتاج محض للخوف والغدر، الذي لن ننجو من مستنقعاته الراكدة الا عبر مشاريع كبرى يتم فيها تجفيف مصادر (ام المصائب) وتمهد الطريق أمام أجيال لا تستوطن ذاكرتها الكوابيس.

جمال جصاني

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة