حفريات في الذاكرة العراقية

(دراسات تاريخية)
من الكتب المهمة التي ألفتها الدكتورة أنعام مهدي علي السلمان في قمة نضجها الفكري، فقد كتبته بعد عام (2003)، تناولت فيه موضوعات جديدة تخص تبلور الذاكرة العراقية بموضوعات عن المرأة العراقية ودورها البنيوي في المجتمع العراقي مثل: صبيحة الشيخ داود ودور الكرد في المشهد السياسي العراقي، والنشاط السياسي الحزبي في آواخر العهد الملكي، وتداعيات بدايات العهد الجمهوري والصراع بين الملكيين والجمهوريين ممثلة في نشاط السياسي المخضرم رشيد عالي الكيلاني وغيرها من الموضوعات المهمة والشيقة، والتي تجمع بين الابعاد التاريخية والسوسيولوجية والفكرية، وتسهم في تشكيل الذاكرة الجمعية العراقية بأبعادها المتنوعة، فهي حفريات في الذاكرة بقراءات تاريخية جديدة تبتعد عن القوالب القديمة التي نحتت تاريخنا ببعده السياسي واهملت الجوانب الأخرى الاجتماعية والفكرية والاقتصادية التي تتجاوز أهميتها الجانب السياسي في تشكيل الهوية الجمعية العراقية.
تقدم “الصباح الجديد” بين يدي القارئ مختارات من فصول هذا الكتب آلا وهو “حفريات في الذاكرة العراقية…دراسات تاريخية” في حلقات عدة لما له من قيمة كبيرة وممتعة في الوقت نفسه لكونه يتناول موضوعات ذات أبعاد اجتماعية وفكرية تخص النخب العراقية التي تعد عاملا أساسيا في تشكيل الهوية الجمعية العراقية.
الحلقة 7

أ.د. أنعام مهدي علي السلمان

الفصل الخامس

محاولتا عارف عبد الرزاق الانقلابيتان
14-15 / أيلول 1965 و30 حزيران 1966
قبل الخوض في محاولتي عارف عبد الرزاق الانقلابيتين ، نجد من الضروري التعرف على السيرة الشخصية والمهنية له، اذ ان تناولها يقدم لنا الاسباب التي دفعته للقيام بمحاولتين انقلابيتين في اقل من عام ، ضد رئيس الجمهورية عبد السلام عارف وعبد الرحمن عارف.
ولد عارف عبد الرزاق في بلدة كبيسة احدى مدن لواء الرمادي (محافظة الانبار) وذلك عام 1921 وكان تسلسه الخامس في العائلة .دخل كتاتيب القرية عام 1927 وفي عام 1928 انتقل الى الابتدائية حيث التحق بالمدرسة وكانت مدرسة اولية من ثلاثة صفوف انتقل بعدها الى هيت لأكمال دراسته الابتدائية .توفي والده وله من العمر عشر سنوات الا انه أكمل دراسته ، حيث التحق بدار العلوم ببغداد وانهى دراسته الاعدادية عام 1939 ، حيث التحق في العام نفسه بالكلية العسكرية التي تخرج منها عام 1943 برتبة ملازم ثان .عين عارف عبد الرزاق في العام نفسه بالقوة الجوية العراقية حيث تم ارساله ببعثة تدريبية لعدة اشهر ، مع ستة من زملائه الى بريطانيا للتخصص في الطيران وذلك في تشرين الاول 1945 وبعد ان انتهى دراسته في بريطانيا في 17 كانون الثاني 1944 عاد الى العراق في 14 نيسان من العام نفسه واصبح ضابطا طيارا في القوة الجوية العراقية ، ويشير الى ان رغبته بالطيران قد جاءت لتأثره بما شاهده من قصف بريطاني اثناء حركة رشيد عالي الكيلاني نيسان – مايس 1941. شارك عارف عبد الرزاق للمرة الالى طيارا لقاصفة في اخماد الحركة الكردية التي قادها الملا مصطفى البرزاني في عامي 1945و1947 .كما شارك في حرب 1948 طيارا لنقاتلة ضمن الجيوش العربية في حربها ضد اسرائيل . ويبدو ان شجاعته وتميزه في مجال الطيران جعل العائلة المالكة في العراق تختاره ليكون طيارها الخاص منذ العام 1949 وحتى عام 1951 ثم التحق في هذا العام بكلية الاركان وبعد ان انهى دراسته عاد في ايلول عام 1958 ليتولى وظيفة مرافق الملك فيصل الثاني وطياره الخاص مما مكنه من التقرب الى العائلة المالكه لا سيما وانه كان يقوم بقيادة الطائرة لولى العهد الامير عبد الاله .ثم عمل منظما العمليات للقوات الجوية العراقية في حلف بغداد بعد تأسيسه عام 1955. لم يمنع عمل عارف عبد الرزاق مع العائلة المالكة من انتمائه الى التيار القومي ،وكان للمدرسيين الفلسطينيين الذين تتلمذ على ايديهم في الكلية العسكرية دور كبير في تأثره من ناحية تطلعه للقومية العربية ، لذا تأثربعد عام 1946بالافكار التي كان يتبناها حزب الاستقلال ، وقد هيأ انتماؤه هذا فضلاً عن صداقته لعبد الوهاب الشواف الذي ادخله تنظيم الضباط الاحرار الى مشاركته في ثورة 14 تموز 1958 ،اذ كان العمل المنوط به السيطرة على معسكر الحبانية حيث كان مسؤولا القوات الجوية وتأمينها من خلال موقعه ،اذكان قائداللسرب السادس في قاعدة الحبانية الجوية، وفي الوقت الذي كان يوجد في القاعده 2300 عسكري وفني بريطاني و40 جندي امريكي مع بعض الجنود،نجح عارف عبد الرزاق في تحليق 20 طائرة فوق سماء مدينة بغداد خلال اليوم الاول للثورة ، رغم عدم ابلاغه بموعدها ،ونجح بالحد من السماح للواء الاول الذي كان بأمرة العميد وفيق عارف ، شقيق رئيس اركان الجيش اللواء رفيق عارف ، بالزحف من المسيب نحو بغداد لقمع الثورة. وخلال الاشهر الاولى من عمر الثورة شارك عارف عبد الرزاق ضمن الوفد العراقي الذي اوفد الى مصر بتاريخ 16 ايلول 1958 للقاء الرئيس جمال عبد الناصر وزيارة القوتين البحرية والجوية حيث استمرت الزيارة حتى 30 ايلول، وقد انفرد عبد الرزاق بلقاء المشير عبد الحكيم عامر وزير الدفاع والقائد العام للقوات المسلحة المصرية .
بعد ذلك زار الوفد سوريا لمدة اربعة ايام وخلال وجود الوفد هناك نحى عبد السلام عارف عن مناصبه كنائب لرئيس الوزراء ونائب للقائد العام للقوات المسلحة ووزير الداخلية. وكانت تنحية عبد السلام عارف ضربة للمنتمين للتيار القومي ،واحدهم عارف عبد الرزاق ،رغم تأكيده بعدم رضاه عن الاسلوب الذي اعتمده عبد السلام في خطبه الارتجالية،بعد ذلك تتالت الاحداث متسارعة ،فبعد مدة وجيزة اعلنت الحكومة العراقية عن اكتشافها لمحاولة انقلابية اتهم بالتخطيط لها السياسي المخضرم رشيد عالي الكيلاني وذلك في 8 كانون الاول 1958 .
ودخل عارف عبد الرزاق في مسار هذه المحاولة اذ ارسلت برقية من قبل قائد القوة الجوية الى قاعدة الحبانية تطلب استدعاءه للحضور الى بغداد “لبضعة ايام للمداولة في امور التدريب” لكن حقيقة الامر كان اتهامه بمحاولة رشيد عالي الانقلابية التي اتهم فيها القوميون بالتنسيق مع الجمهورية العربية المتحدة .
وبرأ عارف عبد الرزاق نفسه من ذلك مشيراً الى ان عبد الكريم قاسم كان لا يميل اليه بسبب معاتبته له على عدم تشكيل مجلس لقيادة الثورة مما اثار الشك في داخله بأنهة من المحسوبين على عبد السلام عارف.
ورغم ان البرقية اكدت على استدعاء عبد الرزاق لبضعة ايام للتداول معه الا انه ىأبقى في بغداد لمدة ثلاثة اشهر، وخلال تلك الفترة بدأت الاتصالات بينه وبين رفعت الحاج سري مدير الاستخبارات العسكرية للقيام بحركة ضد عبد الكريم قاسم ،لكن الحركة التي قامت في أوائل اذار 1959 سرعان ما فشلت وقبض على عارف عبد الرزاق الذي ادخل السجن لمدة خمسة اشهر بعد تقديمه للمحاكمة حتى افرج عنه في 14 تموز 1959 .
بعد الافراج عنه اعيد مرة اخرى الى القوة الجوية في 4 آب 1959 وصدر له امر بالعودة الى قاعدة الحبانية كآمر جناح طيران وليس أمر للقاعدة ،لكنه ظل يسعى مع الاخرين للقضاء على عبد الكريم قاسم، وبعد عدة محاولات ،كما يشير هو،تحقق لهم ذلك في 8 شباط 1963 وكان من تلك المحاولات قرار بعض الضباط من القوميين الذين مونوا لهم تنظيم عام 1960 حيث خططوا في ايلول من ذلك العام للاطاحة بحكم عبد الكريم قاسم . من هؤلاء صبحي عبد الحميد وعبد الكريم فرحان وخالد مكي الهاشمي ،ثم انضم اليهم كل من احمد حسن البكر وصالح مهدي عماش وحردان التكريتي لكن التنظيم سرعان ما دب بين اعضائه الخلاف على من يشغل منصب رئيس الوزراء ، لذا انسحب الضباط القوميون من التنظيم في ايلول عام 1961 . وشكلوا لهم تنظيما جديدا تألف من عارف عبد الرزاق وعبد الكريم فرحان وصبحي عبد الحميد وهادي خماس فضلا ىعن عدد من الضباط القوميين ، لكن التنظيم لم ينجح في الاطاحة بعبد الكريم قاسم.
ثم كانت هناك الخطة التي وضعها حزب البعث في عام 1962 لأغتيال عبد الكريم قاسم خلال لقائه بالرئيس السوري ناظم القدسي في منطقة الرطبة الحدودية واستهدفت قصغ طائرته عند هبوطها بمطار (اج3) قرب الحدود السورية ،لكن العملية تأجلت بعد حسابات النجاح والفشل حيث كان من المقرر ان يشارك بها الضباط القوميون في قاعدة الحبانية ،منهم عارف عبد الرزاق ، الذي اشترط على منذر الونداوي صاحب الفكرة موافقة عبد الكريم فرحان الذي اشترط بددوره حضور عارف عبد الرزاق الى داره واعلان موافقته وازاء شروط الاثنين اجلت العملية . غير انه بالرغم من تأجيل العملية فان على صالح السعدي وطالب شبيب وحازم جواد كانوا ينسقون مع احمد حسن البكر لأقامة علاقات حسنة مع الضباط ذوي الرتب الكبيرةلتحضيرهم للمشاركة في الانقلاب على عبد الكريم قاسم وكان من هؤلاء عارف عبد الرزاق . الذي كان له دور كبير في تنفيذ الانقلاب، اذ يقول بهذا الصدد ” أمرت داود الجنابي بغلق الباب وخط الهاتف وان لا يفتحا الا بأمره . وطلبت من منذر ان يذهب مؤقتا ليشغل وظيفة امر الانضباط العسكري لكي يمكننا التحكم بكل شيء. وبوجودي وقبل وصول عبد الغني الراوي اعلنا تعيين محمد يوسف طه وامين شاهين وعبد الجبار علي الحسين امراء لأفواج اللواء الثامن ، وعندما لم يحضر امين شاهين أمرنا الرائد مزهر جواد الذي جاء بملابسه المدنية .
رتبنا كل شئ بحماس ولم يكن احدنا يستهدف عبد الكريم قاسم شخصياً فلم يكن هو خصمنا بل الحزب الشيوعي كان هدفنا. لكن كلام عارف عبد الرزاق لم يكن دقيقاً حينما قال بأنهم لم يستهدفوا عبد الكريم قاسم شخصياً ففي اجابته على واحدة من الاسئلة حول مساهمته في احداث 8 شباط 1963 اعترف بانه قد طير (44) طلعة لقصف مقر عبد الكريم قاسم بوزارة الدفاع.

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة