الأشعار وتحديد الأسعار

-1-
ليس الشعر مقصوراً على التغزل بالحسناوات وسحرهن …
كما انه ليس محصوراً في نطاق المدائح للسلاطين وذوي الجاه الكبير والثروات الهائلة …
ولا يقف الشعر عند حدود التغني بجمال الطبيعة ووصفها ، ولا الاشادة بمناقب من يختطفهم الموت من أعزَّةِ وأحباب .
اّن مملكة الشعر واسعة الأطراف والامتدادات …
وانها تمتد الى تسليط الاضواء على هموم البائسين والمستضعفين وتُصوِّرُ ما يعانونه من أوجاع الفاقة والحرمان أيضاً .
-2-
انّ الأحوال الاقتصادية مِفْصلٌ مهم من مفاصل الحياة العامة للناس، وحين يخلو الجوّ للمتصيدين في الماء العكر يُلهبون الاسواق بأسعار ظالمة، يفترضونها على الناس بعيداً عن كل ما يقتضيه الانصاف والمروءة ، فضلاً عن ما يقتضيه العمل التجاري نفسه من تسعير معقول يجلب الزبائن ويزيد من حركة المبيعات ..!!
انّ مشكلة الأسعار قديمة جديدة ، وانّ ابقاءها سائبة لا يتحكم بها الاّ غلاظ الرقاب، مِمَنْ لا رحمة لهم ولا ضمير،مسألة لا يصح أنْ يغضّ الطرف عنها القائمون على شؤون البلاد والعباد من المسؤولين
حدثني أحد الأحبة انه رَاجَعَ صيدليةً سمّاها بحثا عن (إبرة) وصفها له طبيبه المختص فقيل له :
انها بسبعين ألف دينار – ولم تكن تحتوي الاّ على نصف الكمية المطلوبة من الدواء – .
وكان صاحبنا يبحث عن (10) إبر يُزرق كل يوم باثنتيْن منها ..
يقول :
أرشدني الطبيب الى صيدلية في الكرخ سمّاها لي ،
وحين طلبت الابر منها لم يكن سعر الواحدة ( بكامل الكمية المطلوبة من الداء ) أكثر من 16000 دينار .
فمجموع الدواء لم يزد على 1600000 دينار عراقي وأين هذا السعر المعقول من ذلك السعر المهول ؟!
-3-
ومشكلة الأسعار العالية واجهها الشاعر المعروف أبو العتاهية ( 130 هـ -211هـ) – وقد كان في بادئ أمره يعمل في صنع الجرار والخَزَف فهو مِنْ طبقة الفقراء الضعفاء الذين يرهقهم ارتفاع الاسعار – بطريقة مُلفتة..
فماذا صنع ؟
انّه بادر الى مخاطبة السلطان محاولاً إثارَتَهُ واستمالةَعطفِهِ على رعيتِهِ الرازحة تحت وطأه تلك الأسعار الملتهبة،التي تضر بالفقراء ايما اضرار، وكانت أبياتُه بمثابة ” التقرير” الذي يُرفع اليه عن أحوال الناس ، وما يجري في اسواقهم، من مغالاة في اثمان السلع والبضائع ، وتأثيرات ذلك الارتفاع الفاحش على الطبقات الضعيفة من الناس خاصة .
وهو بذلك قد أحسن الصنع، حيث لم يجعل المشكلة فردية تختص به شخصيا ، وانما هي مسألة تمس الشريحة الكبرى من الناس ، وبالتالي فانّ السلطان لابد أنْ يُعيرها الاهتمام الكبير اللازم ، وبمقدور الاجهزة الرسمية في كل زمن – ان تحدد للبضائع الاسعار المعقولة التي تضمن للباعة ارباحهم لكن من دون اجحاف بالناس .
واليك الآن ما قاله في هذا المضمار :
من مُبلغٌ عني الامام
نصائحا متواليه
إني أرى الاسعار
أسعارَ الرعـية غـاليه
وأرى المكاسبَ نَزْرةً
وأرى الضرورة فاشيه
مَنْ يُرتجى في الناس
غيرُك للعيونِ الباكيه
وأرى اليتامى والأرامل
في البيوت الخاليـــه
مِنْ بيْنِ راجٍ لم يزل
يسمو إليك وراجيـــــــه
يشكون مَجْهَدَةً بأصواتٍ
ضعافٍ عــــــــالـيه
مَنْ للبطونِ الجائعاتِ
وللجسوم العاريه
يابن الخلائف لا فقدتَ
ولا عدمتَ العــــافيه
إن الأصول الطيبات
لها فروع زاكــــــــــيه
ألقيت أخبارا إليك
من الرعية شــــــــــــافيه
وهكذا ألقى اليه الاخبار – اخبار الرعية – ولكن بطريقة مبتكرة ذكية .
والسلطان يدري أنَّ هذه الابيات ستنتشر بين الناس انتشار النار في الهشيم ، وبالتالي فان التصدي للامر بتحديد الاسعار لامناص عنه ولا محيد
والسؤال الآن :
أليس ما ذكره ابو العتاهية قبل قرون عديدة ينطبق تمام الانطباق على حالة العراقيين اليوم ؟
ان الملايين من العراقيين اليوم هم في حالة مشابهةً تماما لحالة اولئك الذين وصفهم ابو العتاهية في قصيدته.
انهم أصحاب الدموع الجاريه ، والآلام الضاريه ، والاصطلاء بنار الحرمان والظروف القاسيه …
فاين أنتم ايها المسؤولون عن تلك الشريحة المظلومة ؟
حسين الصدر

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة