د. نادية هناوي
الحديثُ عن رسوخِ النّوعِ الأدبي رهن بالحديثِ عن التوطينِ الاصطلاحيّ، الذي تتحددُ عمليةُ اجتراحهِ بمجموعةِ آلياتٍ فنيةٍ، تقننُ التداولية العلميةِ للنوعِ، وتمنحَهُ الاستقرار والثباتَ، وهذا ما يؤهلُ المصطلح َلأنْ يكون جامعًا مانعًا من ناحية التمثيل المراد منه أداؤه، ومن ناحية الشمولية والتعميم في التوصيف الإجرائيّ، الذي ينبغي أنْ يدللَ عليهِ ويبينَ محتواه.
ولولا هذا التَّحديد، لما وُضعتْ المعاجمُ المبوبةُ والقواميسُ المُرتبةُ، التي تدشنُ استعمالَ الاصطلاحاتِ وتقرُّ بالمشروعية لها، وبحسب تصنيفاتٍ معينةٍ، كاعتمادِ الحرفِ الأولِ أو التبويبِ بحسبِ الجذرِ النظريِّ والاشتغالِ العمليِّ أو تبعًا للحاضنِ الثقافيِّ الذي تنضوي تحتَهُ.
وما من مجالٍ لأي خرقٍ أو فذلكةٍ في التعاملِ مع (المصطلحاتِ)، بعكس( المفاهيم) التي لها من المطاطيةِ ما يسمحُ لمستعملها أنْ ينتقلَ بها من هذا الحقلِ إلى ذاك، ويأخذَها على هذا المحملِ أو ذاك، أو يُوظفَها في مجال بعينهِ لا سواه. من هنا يغدو كل نوعٍ أدبيٍّ هو مصطلحٌ وليس كلُّ مصطلحٍ نوعًا أدبيًا، والسبب أنَّ بناء النّوعِ قائمٌ على التوطين والترسيخ، جنبًا إلى جنب التمطيطِ والتمرينِ.
ونحن نؤسس كل يومٍ مفهومًا، لكننا لا نجترح كل يوم مصطلحًا، فتلك عمليةٌ تستغرقُ من الجهدِ والوقتِ الكثيرَ، وتتطلبُ من التمحيصِ المخبريّ والجهد الجماعيّ المزيدً، إلى أنْ يكتملَ البناءُ لنوعِ أدبي يوصف بأنّه مبتكرٌ وجديدٌ. وهذا ما يُبعدُ عمليةِ الاجتراحِ للنوعِ عن أنْ تكونَ رغبةً طارئةً عند أحدٍ لأي أمرٍ كان. والسببُ ارتهانُ عمليةُ الاجتراحِ بالاستغراقِ الذي يتطلبهُ بناءُ نوعٍ، حتى يتحقق له الاكتمالُ في التسمية والتشكل، فيُعلَن للملأ بوصفهِ نوعاً أدبياً مستقلاً ومتجذراً باصطلاحيةٍ مقبولة لدى أولئك المنضوين تحت عباءةِ حاضنٍ ثقافيٍّ محددٍ.
هذا افتراضٌ على سبيلِ التصورِ طبعًا، وليس على سبيل التحققِ، لأنَّ القولَ بالنوعِ أصبح خارج إطار تطور المواضعاتِ المنطقيةِ التي وصلتْ إليها عمليةُ صناعةُ المصطلحاتِ اليوم، وأهمُّ تلكَ المواضعاتِ أنّها لمْ تعدْ تخوضُ في مسائلِ اجتراحِ أنواعٍ أدبيةٍ مستقلةٍ وثابتةٍ. فلقد مضى القولُ بالنوعِ منذ أنْ غابَ الحاضنُ النظريّ وتلاشى التمظهرُ الجماعيّ، وبذلك تبطل مشروعية أية دعوى تنادي بالنوع الأدبي. وأمّا من يخوضُ في مسألة اجتراحِ نوعٍ فذلك ليس متأخراً عن ركبِ التحديثِ الاصطلاحي، غيرَ مواكبٍ للتطورات النقدية ما بعد الحداثية حسب، بل هو واقعٌ في التجني العلمي، متوهمٌ أنه صاحبُ براءةَ اختراعِ، بينما هو يرتكبُ خطأ التبني لنظريةٍ ماتت وحلتْ محلَها نظريةٌ أتاحتْ للحدودِ بين الأنواعِ أنْ تتلاشى، وللعوائقِ أنْ تزولَ.. وهكذا جاءتْ المحصلةُ مجموعة ابتكاراتٍ هي عبارة عن تداخلاتٍ اجناسية، كظهور قصيدةِ النّثرِ، والاشتغال الما ورائي في السّردِ والشّعرِ واللغةِ والإشارةِ، فضلًا عن اندماجِ السّردِ في المسرحِ والتاريخِ والازياءِ والعمارةِ، مع تلاقي النّقدِ بالثقافةِ.. وغيرُ ذلكَ كثيرُ مما يندرجُ في خانةِ الانجازاتِ النظريةِ التي جاءتْ بها رياح ما بعد الحداثة بمدارسها ونظرياتها ومناهجها؛ ومنها نظريةُ الانفتاحِ التي صرّنا بموجبِها نتحدثُ عن تداخل الاجناس الأدبية، وما عدْنا نتحدثُ عن( نوع أدبي) نظراً لانتفاءِ مواضعاتِ الاستقلالِ في الجذورِ والانتساب وعدم الرسوخِ في الحدودِ.
والسّردُ هو أكثرُ الفنونِ استجابة للتداخل الاجناسي، مثلما هو الأكثر مطاوعةً للحياةِ المعيشةِ، ممتزجًا بتفصيلاتها اليومية. واليوم لا تطرح مقولةُ النّوعِ؛ إلا في حدود التّأشيرِ على تاريخِ مرحلةٍ هي جزءٌ من تاريخِ الفكرِ في سعيّهِ لفهمِ العالمِ.
وإذا وقفنا عندَ أصولِ النّوعِ القصصي القصير وتاريخية تطورهِ، لوجدْنا أنَّ لروبرت شولز في مقاله( اسهامات المدرستين الشكلية والبنيوية في نظرية القص) اهتماماً بتتبع تلك الأصول، عائداً إلى الشّكلانيينَ الروس، ولا سيما بروب وذريته الذين قالوا بالتحفيز والعوامل والوظائف، مؤكدًا أنَّ القصةَ عندهم هي «متوالية من الأفعالِ السابقةِ في وجودِها، والمستقلةِ عن أي تقديم كلامي للأحداث. وبهذا يتمّ تمييزها عن الحبكةِ أو الخطابِ. ( القصة ،الرواية، المؤلف، تأليف مجموعة باحثين، ترجمة د. خيري دومة، 1997)
وكذلك أولى شارلز ماي عنايةً خاصةً لتطورِ النوعِ القصصيّ القصيرِ في أمريكا، وذلك منذ أنْ بدت نوعًا مميزًا في القرن التاسع عشر. وتتبعَ التحفيزَ الاستعاري في القصّ القصير في مقاله( في البدء كانت القصة) وكذلك روبرت لوشر في مقاله ( متوالية القصة القصيرة كتاب مفتوح، the short story sequence ; an open book ) وقد نُشر هذان المقالان ضمن كتاب ( نظرية القصة القصيرة في مفترق طرق، بتحرير سوزان لوهافر والين كلاري ضمن منشورات جامعة لويزيانا ، 1989) كما تناول كتبًا مثل( حلقة القصة القصيرة دليل النوع ومرشد للمراجع ) لسوزان جارلاندمان، ويستبورت، 1988 و(حلقات القصص القصيرة الممثلة للقرن العشرين دراسات في نوع ادبي) لفورست انجرام 1971، فضلا عن إشاراته المتكررة إلى جريدة خاصة بالقصة القصيرة الأمريكية.
وسنخصُّ روبرت لوشر Robert Luscherبالتركيز هنا، وهو ناقد أمريكي حاصل على الدكتوراه عام 1984 وموضوعها( متوالية القصة القصيرة الاقليمية في امريكا) وهو الذي شخَّص ظاهرةَ التوالي، ومثّل عليها بمحاولة هورسيتن كاليشر Hortense Calisherبناء خيمة لقصصها في شكل مجلد جمعته ورتبته، وقد وصف التوالي بالنص المفتوح، قائلا:» إن كل قصة قصيرة في سياق المتوالية ليست تجربة شكلية مغلقة ومكتملة وكل كشف في المتوالية يؤهلها بطريقة ما للكشف للتالي ويصبح المجلد ككل بهذه الطريقة كتابًا مفتوحًا، يدعو القارئ لبناء شبكة من التداعيات تربط القصص مع بعضها بعضاً وتمنحها أثرًا موضوعيًا متراكمًا « (القصة ،الرواية ،المؤلف،ص89)
ولم يسمِ هذا التوالي(متوالية قصصية) بل سمّاها( متوالية القصة القصيرة) ، مفضلًا التسمية على تسمياتٍ كانتْ مطروحةً آنذاك، مثل ( الهجين ) لدالاس ليمون و( توليفة القصة القصيرة) لجول سليفرمان و(مجمع القصة القصيرة ) و( حلقة القصة القصيرة) لفورست انجرام ، وكتاب الصورة sketch book لإريفنج.
وإذ تأخذ هذه التسميات في الاعتبار تكرارَ الثيمةِ والرمزِ والشخصيةِ مهتمة أو غير مهتمة بالتتابعيةِ في المجلدِ؛ فإنَّ لوشر رأى في تسمية( متوالية القصة القصيرة) أنها الأفضلُ، بسبب ابتعادِها عن التلاقي مع الحلقات الملحمية أولا، وقربها من السوناتا والمتوالية الشعرية ثانياً، ولأنها تركِّزُ على تطورِ المعنى لدى القارئ وهو يتقدم في قراءة القصة ثالثًا، ورابعًا أنَّ متوالية القصة القصيرة تعطي القارئ مصدرًا قيّمًا وجاهزًا، لأن يسهم اسهامًا ذاتيًا في عمليةِ التوالي التي يُغنيها سياقُ القصة القصيرة، الذي يمدُّها بمجموعةٍ من القصصِ لها نفسُ الاتجاه، وقد كتبها نفس المؤلف، ووحَّدها تجانسٌ سرديٌّ دائمٌ وموقفٌ محددٌ وثيمةٌ متكررةٌ.
بيد أنَّ لوشر يرى أن هذا الاسهامَ الذي يقدمهُ القارئُ هو سلاحٌ ذو حدينِ، فهو يمكن أنْ يمنحَه حسًا واضحًا بالمكانِ والشخصيةِ والثيمةِ، لكنه في الوقتِ نفسهِ قد يخلق له مشكلات شكلية، لأنه يقدّمُ له إغراءً بمقاربة الرواية، بمعنى أنَّ التوالي هو بحسب رؤية القرّاء له، فواحدٌ يراه عشوائياً وآخرُ يرى فيه نقدًا ما، وثالثٌ يرى شكليةً تتابعيةً تتمتعُ بالوحدةِ والتماسكِ. وقد يرى رابعٌ أن القصة مفتتة ومهلهلة، بسبب التوسع والتفصيل. وربما تبدو متوالية القصة القصيرة بالنسبة لمعظم القراء واحدة، حيث كل قصة تقرأ منفردة على حدة، مانحةً القراءَ إحساسًا بأنها منغلقةٌ في مجموعةٍ واحدةٍ. ( القصة ،الرواية ،المؤلف،ص92ـ 94)
وصحيح أنْ ليستْ كلُّ مجموعةِ قصصٍ قصيرةٍ هي متوالية، لكن الوحدةَ في المتوالية قد تجعل المجموعة القصصية رواية. أما التفكك في روابط المتوالية، فهو تجريب يقصد منه المراهنة على مدى نجاعة غياب الوحدة السردية الشائعة في الرواية. وهذا ما يتطلب من القارئ وعيًا أكبر بالإمكانات الشكلية والإيقاعية والموضوعية البديلة، ملزمًا القارئَ بإيجاد المعنى الذي يقرَب بين الأجزاء، وبهذا يختلف النقاد في تلقي متوالية القصة القصيرة ويتفاوتون في فهم استراتيجيات النص فيها.
وتتوقف احتمالية الوحدة في المتوالية تكنيكيًا وعضويًا على القارئ الذي يطورها، على أساس أن التوالي استراتيجية نصية وليست اجناسية، ويرى الأمر متحققًا على أرض الواقع أكثرَ عند القراءِ من الناشرين والمحررين. في حين تغدو أكثر صور التوالي وضوحًا هي الكتبُ الدائرةُ حول قصة شخصية ما ومثّل لوشر عليها بمتوالية همنغواي ( في زماننا ) 1924 وبكتّاب مؤسسين آخرين مثل جون شتاينبك وبيتر تايلور وسوزان كيني ووليم فوكنر الذي له متوالياته القصصية القصيرة مثل( الذي لا يقهر) و(اهبط يا موسى ).
وعلى الرغم من اندفاع لوشر للتمثيل على هذه المتواليات، ومحاولته اختبار مجموعات قصصية من ناحية الوحدة الموضوعية ومدى استقلالية قصة عن المجموعة تجميعًا أو تتابعًا؛ فإنه نفى وجودَ نموذجٍ مطردٍ لمتوالية القصة القصيرة، لكونها تنشأ عن دافع إبداعي فريد.
وحددَّ مجموعة مؤاخذات تحيط بهذا الاشتغال، ومنها افتقادُ متواليةُ القصةِ القصيرةِ الشديدِ للشكلِ الذي يبدو مدمرًا لوضعيتها كشيءٍ واضحٍ، والسبب أنَّ المتوالية لا تنبني على وفقِ مخططٍ ما، وقد تخضعُ لترتيبٍ معينٍ، وهذا ما يجعلها تبدو كتهجيناتٍ ليس لها هيكلٌ سرديٌّ، بل تعتمدُ تنوعَ الاستراتيجيات النصية لعلها تصل إلى الوحدةِ والتماسكِ. وهذا ما يجعلُ وصفيةَ المتواليةِ وصفيةً نصيةً، وليستْ نوعيةً فهي تجريبٌ مؤقتٌ ومطاطٌ إلى حدٍ بعيد،ٍ سرعان ما يُستبدلُ بغيرهِ، بعكس النّوع الذي أهمُّ سماته الرسوخُ والثباتُ.
وقد انتهى روبرت لوشر من معاينته لتاريخ المتوالية في القصة القصيرة الامريكية إلى أن القصة القصيرة داخل المتوالية ستظل ذات وحدة شكلية حتى في الوقت الذي ندرك فيه تكرارية النموذج والثيمة وتطورها، مُعطيًا متوالية القصة القصيرة صفة( الكتاب المفتوح) قائلا:» إن وضعية القصة القصيرة بوصفها جزءًا دالًا من كلٍ متطورٍ لا تدمر استقلاليتها وإنما هي توسع من وظيفتها ودلالتها داخل كتاب مفتوح» ص 102.
وهذا الانفتاح هو الذي يجعل مسألة التوالي رهناً باستنهاضِ المتوالية الدقيق للتفاصيلِ وما قد يفضي بالقارئ إلى فهم الحدودِ الشكليةِ للقصةِ سواء في انفرادها أو في كليتها. ومع إعلاء دور القارئ ونظرياته اضمحلت صفة النوع، كما تلاشت مفاهيم تقليدية عن الرواية والقصة القصيرة في أواخر القرن العشرين، وشاعت بدلها نظرية العبور بين الأجناس تجريبًا وتداخلًا وانفتاحًا.