التضامن بالأقوال لا يكفي!

مهند عبد الحميد
اعتمد يوم 29 تشرين الثاني من كل عام يوماً للتضامن مع الشعب الفلسطيني. وفي هذا اليوم السعيد تعقد اللجنة المعنية بممارسة الشعب الفلسطيني لحقوقه غير القابلة للتصرف جلسة خاصة – سنوية – يتحدث فيها الأمين العام ورئيس الجمعية العامة ورئيس مجلس الأمن ولفيف من المتحدثين، إضافة إلى تلاوة رسالة من رئيس اللجنة التنفيذية والسلطة الفلسطينية.
وجاء اعتماد هذا اليوم من كل عام تنفيذاً لقرار اتخذته الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 1977. وجاء توقيت إصدار القرار في اليوم الذي اتخذت فيه الجمعية العامة قرار التقسيم 181 الذي ينص على إنشاء دولة فلسطينية واعتبار القدس مدينة مدولة، وإنشاء دولة إسرائيل.
منذ 49 عاماً، يجري الاحتفال في مكاتب هيئة الأمم المتحدة في نيويورك وفيينا وجنيف، وتصدر الرسائل وتوزع المطبوعات وتعرض الأفلام التي تؤكد جميعها على التضامن والتعاطف مع الشعب الفلسطيني. ويجري التذكير بأن قرار الأمم المتحدة في العام 1947 لم ينفذ، وحقوق الشعب الفلسطيني غير القابلة للتصرف بحسب المصطلح الذي درجت الخطابة الدولية عليه.
حقيقة الأمر، إن مستوى التضامن العالمي مع الشعب الفلسطيني يعد من أعلى أشكال التضامن مع الشعوب والقضايا، وتشهد على ذلك مجموعة القرارات الصادرة عن مجلس الأمن والجمعية العامة واليونيسكو والاتحاد الأوروبي والاتحاد الإفريقي ودول عدم الانحياز ومنظمة المؤتمر الإسلامي ودول أميركا اللاتينية، إضافة إلى مجلس حقوق الإنسان وغيرها من المنظمات غير الحكومية والمؤتمرات الشعبية …إلى آخر ما يفيض ويزيد من التضامن العالمي. لكن كل هذا التضامن الهائل لم يزحزح المعيقات التي تحول دون ممارسة الشعب الفلسطيني لحقوقه غير القابلة للتصرف. وما نجده هو عكس المطلوب والمتوخى، حيث تنجح أقلية بقيادة الولايات المتحدة في تعطيل الجانب التطبيقي للقرارات وتحولها إلى حبر على ورق. وتتولى تأمين الغطاء السياسي للتمرد الإسرائيلي على الشرعية والقانون الدولي، ولاستبدال القانون الدولي كمرجعية بأيديولوجيا دينية تشطب حقوق الشعب الفلسطينية جملة وتفصيلاً، واعتمادها كمرجعية إسرائيلية بدعم أميركي وبصمت النظام الدولي الذي تمثله هيئة الأمم المتحدة.
نحن أمام التناقض بين شرعية (ميثاق الأمم المتحدة ) والقانون الدولي والقرارات المنسجمة معه في جهة، وأيديولوجيا نقيضة للقانون الدولي محمية من أكبر وأقوى دولة في العالم، وتستند إلى غطرسة القوة وفرض الوقائع على الأرض في الجهة الأخرى.
ولا تكتفي الأقلية في الأمم المتحدة باستبدال القانون الدولي بأيديولوجيا دينية تعصبية. بل وتمارس هذه الأقلية أشكالاً من العقوبات والتهديد بعقوبات ضد كل الدول التي تلتزم بالقانون الدولي وتصوت إلى جانب القرارات المنسجمة معه، بما في ذلك معاقبة المؤسسات التي تتخذ القرارات كاليونيسكو والأونروا والحبل على الجرار، ومعاقبة الدول إذا ما صوتت لصالح قرارات تدين الاحتلال والاستيطان وضم القدس.
المستوى الأخطر في التحولات التي يشهدها النظام الدولي، هو مكافأة الدولة المحتلة المتمردة على القانون الدولي فيما يخص الصراع الفلسطيني الإسرائيلي. وذلك بفضل التطبيع والتعاون معها، رغماً عن موقفها وسياساتها العدمية ضد الشعب الفلسطيني، خروجاً على التقليد المتبع مع دول مارست الاحتلال والتمييز العنصري، والتي كانت تتعرض لعقوبات ومقاطعة وعزل. ما يحدث الآن يشكل خروجاً عن السياسة المتبعة سابقاً وعن القانون ومبادئ حقوق الإنسان والحقوق غير القابلة للتصرف. حيث يتم التعاون والانفتاح والتطبيع مع دولة تمارس الاضطهاد والاستغلال والقهر لشعب آخر. ومن نماذج ذلك قيام الرئيس التشادي إدريس ديبي، أول من أمس، بزيارة إسرائيل، ومعروف أن تشاد بلد مسلمة ناطقة بالعربية وتتولى رئاسة الاتحاد الإفريقي هذا العام، وبحسب المصادر الإسرائيلية، فإن إسرائيل عززت علاقاتها مع مالي والصومال وكينيا ورواندا وأثيوبيا وليبيريا، وغينيا التي أعادت علاقاتها الدبلوماسية مع إسرائيل، فضلاً عن العلاقة مع دول خليجية عربية وكان أبرزها زيارة نتنياهو لعُمان ودعوة وزير الاقتصاد الإسرائيلي لزيارة البحرين وزيارة وزيرة الثقافة الإسرائيلية للإمارات العربية، وغير ذلك من علاقات مع قطر وعلاقات أخرى غير معلنة. لقد طار شرط التطبيع مقابل إنهاء الاحتلال وإقامة السلام. واختفى شعار الأرض مقابل السلام الذي طرح في العقود السابقة. ليحل مكانه السلام مقابل السلام، حيث تجمع دولة الاحتلال بين بقاء احتلالها للأرض الفلسطينية والجولان وبين إقامة علاقات طبيعية مع دول عربية وغير عربية.
أصبح الناظم المأخوذ به هو مصالح أمنية واقتصادية، مقابل التطبيع مع دولة الاحتلال. والمعروف أن إسرائيل تبرع في تسويق قدراتها الأمنية وخبراتها الاقتصادية بمثل ما تبرع في تنكرها للحقوق الفلسطينية. والنتيجة إسقاط مطلب إنهاء الاحتلال ومطلب تطبيق قرارات الشرعية الدولية، ومطلب الاستجابة للحقوق الفلسطينية، إسقاط كل ذلك من الصفقات التي يتم إبرامها من قبل الدول المندلقة على دولة الاحتلال. ويعد هذا التحول في العلاقات الإسرائيلية الدولية والعلاقات الإسرائيلية العربية من أخطر التحولات والتحديات التي تواجه الشعب الفلسطيني. هذا التحول الذي سيؤثر سلباً وبمستوى غير مسبوق على ميزان القوى السياسي الذي تعتمد عليه منظمة التحرير في بحثها الدائم عن حل سياسي ينهي الاحتلال. وقد بدأت تجليات إسقاط الشروط الدولية والعربية على أرض الواقع كتهويد القدس واعتبارها عاصمة موحدة لدولة الاحتلال، وقانون القومية الإسرائيلي الذي لا يعترف بالحقوق التاريخية والوطنية للشعب الفلسطيني في وطنه، إضافة لشطب قضية اللاجئين ونهب الأرض واستيطانها وتقويض مقومات الاستقلال والدولة الفلسطينية على الأرض. ضمن هذه المعادلة، لم يعد يكفي إصدار البيانات والتصويت في الهيئات الدولية والعربية مع فلسطين ضد إسرائيل، في ظل تثبيت الاحتلال والإحباط المنهجي العملي لمقومات التحرر الفلسطيني، وفي ظل مكافأة الدولة المحتلة في إطار العلاقات الثنائية التي تتعامل معه باعتباره تشجيعاً لسياساتها.
لم يعد الخطاب السياسي والإعلامي والسياسات الفلسطينية المتبعة يتناسب أبداً مع التحول الدراماتيكي في مواقف الدول، وذلك في ظل طغيان لغة المصالح الضيقة على المبادئ والقيم والأخلاقيات والحقوق. وإذا كانت دولة الاحتلال تستطيع تلبية مصالح دول ونخب حاكمة، فإن الشعب الفلسطيني هو الذي يحتاج إلى مساعدة تلك الدول، وسيكون ثمن المساعدة في هذه المرة السكوت الفلسطيني عن التحول الخطير الذي يهدد المصير الوطني. نظرياً الشعوب وقوى التحرر هي التي تنسجم مصالحها مع مصلحة الشعب الفلسطيني في التحرر. وقد حدث ما حدث عندما هُزمت الشعوب العربية إبان ربيعها الذي تم إحراقه بلا رحمة. وبرغم ذلك لا بد من التجديد الفلسطيني في لغة الخطاب وفي السياسات وفي إعادة بناء العلاقات، فمن يفعل ذلك؟ نحن دفعنا ثمن عدم الاعتماد على الذات بالحد الأدنى الضروري، وندفع ثمن إدارة الظهر للشعوب ولقواها الحية.

ينشر بالاتفاق مع جريدة الأيام الفلسطينية

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة