عد إلكتروني وفرز يدوي..!

لن نكشف سراً عندما نشير الى حقيقة أن القوى المتصدرة لنتائج الانتخابات النيابية الأخيرة (العام 2018) جميعها ممثلة في الطركاعة التي يطلق عليها بـ (المفوضية المستقلة للانتخابات). أي أنهم لم يختلفوا في هذا الانتهاك السافر والذي حذّرنا من نتائجه الكارثية مرارا وتكراراً، لكن كل الدعوات المماثلة والمحذرة من عواقب ذلك الأمر تبددت، ومضت حيتان القوى والجماعات في تنفيذ مسرحيتها السقيمة، والتي ألحقت أشد الأضرار بسمعة العراق وتجربته الفتية في مجال الانتقال صوب الديمقراطية وبناء مؤسسات الدولة الحديثة، حيث انتقدت التقارير الأممية المتخصصة في مجال متابعة ومراقبة الانتخابات، ما حصل في هذا الموسم. أكثر من ربع مليار دولار أميركي هي كلفة منظومة وأجهزة العد والفرز الإلكتروني، لم تنقذنا من عيوب المواسم الانتخابية وحسب، بل انحدرنا برفقتها الى مآلات كادت تطيح بالتجربة الديمقراطية برمتها. لقد كشفت التجربة الأخيرة؛ حقيقة أن منظومة الفساد وشبكاته الاخطبوطية الممتدة الى مساحات واسعة من تفصيلات حياتنا العامة والخاصة، بمقدورها تسخير أفضل التقنيات والمنظومات لخدمة تطلعاتها الشرهة والمتنافرة والآمال المشروعة للعراقيين. ما جرى من أحداث وتطورات وتغيير متكرر لموعد الإعلان عن النتائج النهائية لعملية الاقتراع، لم يكن مفاجئاً للمتابعين الجادين للمشهد العراقي بعد “التغيير”، فالطبقة السياسية المهيمنة بكل تلاوينها وعناوينها وخطاباتها واستعراضاتها في العداء لبعضها البعض الآخر؛ متفقة على استمرار وديمومة قواعد هذه اللعبة، التي تعيد تقسيم إقطاعيات الدولة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية. وهذا ما نضح مبكراً عن النتائج التي أعلنت عنها المفوضية بعد مرور أسبوع على إجراءها، حيث يعجز أفضل المتخصصين في شؤون الصناديق؛ من فك طلاسم ما جرى خلف الكواليس، فلا هي نتاج منظومة العد والفرز الإلكتروني، والتي لا تحتاج في أسوأ الأحوال؛ لأكثر من ساعات معدودات لإعلان النتائج النهائية، ولا هي نتاج عد وفرز يدوي كما شهدناه في الدورات السابقة والتي احتاجت لعدة أسابيع كي يتم حسم النتائج النهائية. إذن ما جرى شيء آخر تماماً؛ جاء متناغماً وفلكلورنا الوطني الذي يلوذ عند منعطف الطرق الى ما يعرف بـ “فقه السلة” حيث يتم ترضية الغيلان بالجمع بين التجربتين لينتج لنا ما يمكن أن نطلق عليه بـ (عد إلكتروني وفرز يدوي) والذي يستجيب لذائقة كل المشتركين في الوليمة الأزلية.
من أجل عيون الأمن والسلام الأهلي سيتم اعتماد النتائج من قبل جميع السلطات المحلية والقوى الإقليمية والدولية، لنجد أنفسنا بمواجهة نفس الهموم والاهتمامات، مع برلمان لا يختلف كثيراً عما سبق، وتشكيلات حكومية هشة وغير متماسكة، وهذا ما لا يتفق وما يفترض أنها مرحلة للبناء والتنمية الشاملة وإعادة الإعمار. لقد أخفقت المفوضية “المستقلة للانتخابات بأداء ما عهد اليها من مهمات ومسؤوليات جسيمة، وبرهنت التجربة على ضرورة تحرير هذه المفوضية الخطيرة من قبضة الأحزاب والجماعات المتنفذة والمتغولة، بوصفها خطوة أولى على طريق الألف ميل نحو الديمقراطية والتعددية والحداثة ودولة القانون. إن مهمة هذه المفوضية وواجباتها كبيرة جداً، ولا تنحصر بما تعودت أن تقوم به عشية الانتخابات من نشاطات روتينية وبيروقراطية، صحيح يقتضي عملها أن تكون مستقلة ومهنية، لكنها لا يمكن أن لا تنحاز لكل ما يخدم التطور الديمقراطي للبلد، أي أن يكرسوا كل مواهبهم وصلاحيات المفوضية من أجل الانتصار للديمقراطية والحرية والتعددية، أساس وجود مثل هذه الهيئات المستقلة…
جمال جصاني

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة