يرسم الراحل جرجيس فتح الله أفقاً فكرياً وسياسياً نادر المثال فهو بهذا العمل يتطرق إلى زوايا وأحداث وشخصيات كان لها أدوارها المميزة سلباً وإيجاباً في التاريخ العراقي. ومما يلفت النظر في هذه النصوص التي وردت في كتاب رجال ووقائع في الميزان أنها أضاءت بنحو دقيق لحظات وأحداثاً ومسالك فكرية وشخصية وثقافية وتاريخية لم يتطرق إليها احد قط.
“الصباح الجديد” تقدم قسطاً وافراً من هذه الإضاءات كما وردت على لسانه لجمهور لم يطلع عليها في السابق بمعزل عن عمق ثقافة هذا الجمهور او صلته بالسياسة العامة. إنها ليست أفكاراً فحسب وإنما هي شهادات تنطوي على نبوءات مثيرة للدهشة عن اثر المناهج والأيديولوجيات والشهادات التاريخية السابقة للأشخاص الذي يجري الحديث عنهم ويسهم الراحل جرجيس فتح الله في تصحيح الكثير من المواقف والتصورات والوثائق السياسية المرافقة لمواضيع الحديث. كما ان أفكار السيد فتح الله تستكمل في أحيان كثيرة ما كان نصاً لم يكتمل في الماضي. إننا من دواعي الاحترام والتبجيل لهذه الشخصية النادرة نسطر عدداً من هذه الأفكار في الكتاب المذكور” رجال ووقائع في الميزان”.
الحلقة 25
حوارات مع جرجيس فتح الله*
طرب عزيز طربا شديدا مرة عندما امتدحت أسلوبه في الكتابة . واعتبرها امتيازا خصصته به قائلا هذا هو الوصف الذي اعبأ به حقا . وبقيت الآية تتصدر الجريدة حتى اخر أعدادها .
ولم اسمعه مرة يغتاب احدا او يعيب موقفا بتعليق او رأي يخجل منه او يتحرج من التصريح به وجها لوجه . ومرة ضمنا مجلس اليه وانجر الحديث والجرح ما زال ينزف – الى العمل الرخيص الذي اقدم عليه “يحيى قاسم” المحامي بالاستئثار بجريدة الحزب وخروجه بها غنيمة فصدرت من بعضنا تعليقات قاسية وطعون بحقه فأسرع (عزيز) بوقف الحديث بإيماءة وتعليق . مؤداه ان لم يسلم احد من حالة من حالات الضعف البشري كهذه . وان لدينا جريدتنا واليس عنوان “الوطن” خير من عنوان “الشعب”؟ لانه يشمل الارض وساكنيها .
ولم يكن يعد من الخطباء الذين يسحرونك بنبرات اصواتهم وحركاتهم التمثيلية . فصوته لم يعد لذلك واوتار حنجرته ما كانت تساعده كثيرا على اثارة المشاعر . على انه كان قوي المنطق يدرك جيدا ما يقول ليرغم سامعه على المتابعة والانتباه بأسلوبه الهادئ وطريقة عرضه المبسط السهل لارائه واقواله تتسق دوما مع كتاباته . وما اظنه دخل مناقشة الا وكان على اتم استعداد لها , ان اه طريقة فريدة في اقناعك . وهو لا يشعرك مطلقا بأنه يريد ان ترى رأيه في النهاية او ان يفرضه عليك . ولو خرجت من الحديث وانت غير مقتنع . فأنك ستخرج على الاقل وانت مقتنع بأن الرجل لا يكذب عليك وانه يعرض عليك ما هو مؤمن به . وهذه الخصلة تضع (عزيزا) في نظري في عداد المفاوضين الحاذقين . وان فيه جاذبية اولئك الذين يسهل عليهم كثيرا ان يجدوا لهم موقعا اثيرا في قلوب الاخرين . وسأروي لك هذه الحكاية تأكيدا لما عرضت :
يسكن في حي قريب جدا من حينا في الموصل معلم الابتدائية السيد (يعقوب يوسف اسي ) وهو من اسرة مسيحية معروفة . تلقيت عنه في المدرسة الابتدائية دروسي الاولية في اللغة الانكليزية واصبحنا اصدقاء بعد تخرجي ومزاولتي المحاماة . وكان سبيلنا واحدا يكاد لا يمر يوم الا ونتلاقى فيهش ويبش ويستوقفني ليلقي علي موعظة دينية صغيرة اذ كان بالغ التقى والكنيسة بيته الثاني . يداوم صباحا في مدرسته ومساء في المعهد الثقافي البريطاني الذي استخدمه مدرسا لاوليات اللغة . يعيش في عالمه الديني الخاص غير معتم بشيء الا بأسرته واولاده , لا يقرأ جريدة ويكره السياسة واهلها . عندما علم بأني انتميت الى حزب سياسي لم يعد يستوقفني بل كان يكتفي بتبادل التحية ويسرع لطيته وقد ادركت السبب في تحوله الفجائي فجاريته فيه مقدرا ظروفه ومزاجه .
ذات يوم وقف ينتظرني وانا مقبل ولم يدلف الى زقاق , امسكني من ذراعي وجذبني الى حائط وقال وهو يتلفت يمنة ويسرة وكأنه يخشى ان يسمعه احد : “سمعت ان عزيز شريف هو رئيس حزبك ” اجبت وانا احاول كتم دهشتي بالايجاب فقال : “هل سيأتي الى الموصل”؟ قلت ربما بعد بضعة ايام , فأسرع بقول “ارجوك . ان جاء فاخبرني لاني اريد لقاءه “, ولم يكن هناك تردد في تحقيق رغبة استاذي القديم فوعدته , وافترقنا وانا في حيرة من امره , يتحاشاني لاني حزبي وينشد لقاء برئيس حزب ؟
ولا اطيل فقد ارسلت من ينبئه بوجود عزيز في دارنا ولم أنبئ (عزيزا )وقد قصدت مفاجأة مزدوجة . وما مرت برهة حتى اقبل المعلم يعقوب . ووقعت عينا (عزيز) عليه وهو لم يتخط عتبة الحجرة فهتف “يعقوب!” واسرع اليه باسطا ذراعيه وقد ارتسمت على وجهه ابتسامة عريضة . اجلسه الى جانبه وما زال احدهما يحتضن الاخر ولاحظت عيني يعقوب المدمعتين . كانا طالبين في دار المعلمين ببغداد بقسمها الداخلي , متجاورين , جمعت بينهما الالفة والمودة والغربة , وفرقت بينهما عشرون عاما او تزيد . وجلسا يتسايران ويستذكران احداثا واياما , كأنهما عشيرا صبا . وسأله (عزيز ) اين دشداشتك (البتة)؟ وعجب الحاضرون لمعرفة عزيز بهذه التسمية الخصوصية جدا لقماش مقصب مقلم بالابيض والاصفر . والمسألة كلها ان اسرة صديقه يعقوب كانت قد ارسلت قميص نوم من هذا النوع اليه وكان يخطر به امام رفاقه مختالا . والعجيب كيف بقيت اللفظة راسخة في رأس عزيز بل الاعجب منها طراوة تلك المنزلة التي احتلها عزيز في ضمير يعقوب التي بلغ من قوتها ان تحدث مل كا كان ينزله هذا المعلم المغمور منزلة خوف وحذر .
ووجدت (عزيزا) غاضبا مرة واحدة فحسب وسأسردها لعلاقتها بالاحداث الجسام التي تلت . كان قد تخلف عن القادمين للمشاركة في مهرجان السلام بالموصل يوم 6 من اذار كل من توفيق منير وابنه الصبي . والطبيب العسكري النقيب (عبد الكريم شريف ) شقيق(عزيز) الاصغر. في ضحى اليوم الثاني وبحسب الاتفاق قصدت الفندق لاخذهما بجولة في انحاء الموصل وضواحيها واذ ب (عبد الحكيم) يصر على زيارة للعقيد عبد الوهاب الشواف اولا بحكم صداقة ولكونهما قد خدما في وحدة معا , ونزل (توفيق) على طلبه واظنه كان على معرفة بالشواف ايضا اما انا فلم يسبق لي لقاء بهذا العسكري , اخذتهما بسيارتي الى معسكر الغزلاني ودخلنا عليه ورحب بهما وراحوا يتبادلون المجاملات وكان مجلسي قبالة الشواف وبالقرب من باب الغرفة اما (توفيق ) فقد اتخذ مكانا بمواجهة نافذة مربعة صغيرة تثقب الجدار , ومن خلالها يتيسر الحديث بين الامر وبين معاونه في الغرفة المجاورة ولم يكن غير الرائد الركن (محمود عزيز) لولب الحركة ورأسها المدبر كما تبين فيما بعد , وكشأن (توفيق) لم يضيع فرصته وواجه الشواف ببعض حوادث الشغب التي سجلت للقوميين ظهر يوم الاجتماع وعلى اثر انفضاضه مذكرا اياه برصيده الديمقراطي بحسب تعبيره وبمنزلته عند الحركة التقدمية لا اذكر لاي فريق . واتخذ الشواف وضع الدفاع مبينا حراجة الموقف . واخرج من درج مكتبه منشورا وراح يتلوه مدللا على حدة التيارات . وانا شخصيا لم اشعر بشيء غير عادي . الا عندما نهض توفيق فجأة وصافح العقيد مودعا . وفي طريق العودة اعلن عن نيته في مغادرة الموصل فورا وطلب الرجوع الى الفندق . ولم اسأله عن سبب تغيير الموعد بل ودعتهما وهما ستقلان سيارة اجرة خاصة .
وكان ما كان من اعلان الانقلاب ونهايته وبعدها بأيام قصدت بغداد وقمت بزيارة عزيز في داره واتفق ان كان شقيقه الدكتور (عبد الحكيم ) موجودا فضلا عن (توفيق) . ما ان استقر بي مجلسي حتى التفت الي( توفيق ) وقال :
“لو اصغينا اليك وتأخرنا لكنا في عداد الموتى وانت لا تدري ما حصل . كان محمود عزيز يتابع حديثنا عبر النافذة , وسمعته يقول للشواف : سيدي تأمر نوقفهم ؟ فلوح الشواف بيده واقفل النافذة . لا بد لاحظت اني قطعت حديثي وانهيت الزيارة…”.
واذ ذاك لحظت (عزيزا) ينهض منتفضا وقد استولى عليه الغضب الشديد . وبدا وكأنه يسمع بالامر لاول مرة . وقال بلهجة التأنيب قاسية وهو يرتجف انفعالا :” لم يكن جرجيس هو الذي اخذكم اليه . بل هذا الساذج المتسرع المتلهف للسلام على صديقه ” موجها الحديث الى شقيقه عبد الحكيم الذي بقي صامتا مستسلما للتقريع والتأنيب .
مر علي زمن وانا عاجز عن التوفيق بين حكاية (توفيق)وبين ما حصل فعلا . فقد كانت هناك مدة تزيد عن سبعين ساعة بين اقتراح محمود عزيز القاء القبض علينا وبين الاعلان عن الانقلاب . “وليس من المعقول ان يجري اعتقالنا في وقت مبكر كهذا دون ان يكتشف الامر ويحف الخطر الكبير بالخطة الانقلابية .
*اجرى الحوارات السيدان مؤيد طيب وسعيد يحيى والكتاب من منشورات دار أراس للطباعة والنشر، منشورات الجمل، الطبعة الأولى 2012