فزاعة الإلحاد

لا يحتاج المتابع المنصف للمشهد الراهن وتجلياته الغرائبية الى جهد كبير، كي يكتشف نوع المصالح والعقائد والقوى والأغراض والعقول، التي تقف خلف الموجة الجديدة للحرب ضد ما يطلقون عليه بـ “الإلحاد والملحدين” لا سيما وأن هذه التهمة قد تخصصت في تاريخنا القديم والحديث، للإجهاز على المفكرين والأحرار من بنات وأبناء هذه المضارب المنكوبة بنظم العبودية والإذلال. بالرغم من التحولات الجذرية التي أطاحت بقسم كبير من معاني هذه المفاهيم، والزحزحات الهائلة التي لم تبق شيئاً من هموم القرون الوسطى وصولات محاكم تفتيشها سيئة الصيت، إلا أن بقايا تلك القوافل المنقرضة ما زالت معتصمة بترسانة تلك العقائد والسرديات التي تبوأت أماكنها في متاحف التاريخ. مع شيء من الجهد والحيادية والموضوعية في البحث والمتابعة، سنجد أن مدعي الدفاع عن الله والإيمان هؤلاء، لا مشكلة لديهم مع هذا البعبع (الإلحاد) لأنه غير موجود أصلاً، وهم يدركون ذلك جيداً، فهم ورثة تلك القوافل والجماعات التي أهدتنا ما نحن عليه اليوم من دون خلق الله. ما يخشونه لا يمت بصلة بما يدعونه من خطر تنامي ذلك البعبع الخرافي، وهم بالرغم من مكرهم ودهائهم في التستر خلف هذا الوابل الكثيف من قذائف الإلحاد الدخانية؛ إلا أن هدفهم الأساس لا يخرج عن منهجهم العتيد، في بث الرعب والذعر بين صفوف المستائين والمتذمرين من تدخلهم الشره وغير المحدود بكل تفصيلات حياة عيال الله في الأرض والسماء. إنها نوع من الحروب الاستباقية والتي اعتادوا على شنها ضد كل من يخرج عن مسار الحشود ووصايتهم الأزلية عليها بوصفهم وكلاء الله على أرضه وعياله..؟!
إن دوافع مثل هذه الحملات واضحة، ويمكن اقتفاء أثرها في الآثار الوخيمة التي خلفتها حقبة الأسلمة السياسية والآيديولوجية، وفي الطرق المسدودة التي انتهت اليها، لا في رفع ما يمكن أن نطلق عليه بـ (قميص الإلحاد) والتستر خلفه بحجة التصدي لـ (أعداء الله ورسوله..). كل من يعمل في المجال الفكري والثقافي يعلم جيداً الدرك الذي انحدرت اليه الأفكار والهموم الثقافية في هذا الوطن المنكوب بكل أشكال الشعوذة والدجل والتخلف والتبعية والارتزاق، ومع مثل هذه الشروط والمناخات يكون الحديث عن خطر الإلحاد وغير ذلك من الفزاعات، عبارة عن نكته سمجة في أفضل الأحوال. أما إن أصروا على مواصلة فزعتهم؛ في الذود عن حدود الله فعلاً لا تشدقاً واستعراضاً أجوفاً، فبمقدورهم تحقيق ذلك من دون الحاجة لكل هذا الصخب والضجيج؛ بتقديمهم للقدوة الحسنة في الخطاب والسيرة والسلوك، والزهد بمقتنيات “الدنيا الفانية”، لا بالتهديد والوعيد وغير ذلك من الأساليب الهمجية التي جسدتها عصابات داعش والمتجحفلين معها بحقد وتعصب وإجرام، على فسطاط فردوسهم المفقود في العراق والشام وبقية الولايات المستباحة.
في بلد تقهقرت فيه كل أشكال الحياة والخدمات، وتحول ببركة الجيل الجديد من قوارض حقبة الفتح الديمقراطي المبين؛ الى منافس أصيل في نادي البلدان العشرة الأكثر فساداً، لا يمكن أن يشغل سكانه أنفسهم بمثل هذه الهموم البطرانة (الإلحاد وغيره من هموم فكرية وفلسفية ووجودية) فلم يعرف عن العاصمة بغداد أنها شهدت ولادة نسخة جديدة من كارل ماركس ولا مدينة الغرّاف شخصاً يمت بصلة قرابة علمية بسيغموند فرويد ولا مدينة البصرة عرفت أحد تلاميذ فريدريك نيتشه ولا مدينة زاخو بأحد أتباع تشارلز داروين، ما ظهر لدينا شيء آخر تماماً، لا علاقة له لا من قريب ولا من بعيد بهموم عالم حولته العقلانية والحداثة والحريات الى قرية..
جمال جصاني

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة