علي الوردي وفالح عبد الجبار: هل فاق التلميذ أستاذه؟

د.عبد الخالق حسين
بعد الرحيل المبكر لعالم الاجتماع العراقي الدكتور فالح عبد الجبار وهو في أوج نضاله ونشاطه الفكري، لا يكل ولا يمل برغم قلبه المُتعب، كتب العديد من الكتاب الأفاضل مقالات تأبينيه عنه، تقديراً لنضاله، وتثمينا لعطائه الفكري الغزير. ولعل أعمق مقال تأبيني قرأته عن الراحل، في رأيي، هو مقال الكاتب والإعلامي الدكتور حميد الكفائي الموسوم: (فالح عبد الجبار: عاش فاعلاً ومات واقفاً)(1)، المنشور في صحيفة الحياة اللندنية. وكان المقال بحق عميقاً ومكثفاً في تقييم الراحل، ودوره في النضال العسير، والطويل إلى آخر لحظة من حياته، حيث انتابته أزمة قلبية إثناء مقابلة تلفزيونية في بيروت مقر إقامته، أودت بحياته.
ومما قاله الكاتب معاتباً السلطة العراقية: ” لم ينل فالح ما يستحقه من اهتمام عراقي رسمي، على الرغم من أن الجميع يعترف بفضله على المثقفين والصحافيين والباحثين، عراقيين ومهتمين بالعراق، عبر أبحاثه الرصينة وتعاونه معهم. لم يهتم قادة العراق الجدد بهذا العالم الكبير الذي فاق علي الوردي في قيمة الأبحاث التي قدمها والنشاطات التنويرية التي مارسها. …الخ”
وقد لفت انتباهي، وأثار فضولي قول الكاتب أن الراحل فالح عبدالجبار (قد فاق علي الوردي في قيمة الأبحاث التي قدمها والنشاطات التنويرية التي مارسها. …الخ.) فلحد علمي لم يتفوَّق كاتب أو عالم اجتماع عراقي على الراحل علي الوردي، الذي يعتبره البعض ابن خلدون عصرنا، وقد أكون مخطئاً ، ودون إنكار دور الراحل فالح في رصانة و دقة أبحاثه العلمية التي لا تقدر.
لذلك اتصلت بالصديق الكفائي حول هذا الموضوع، ودخلنا في نقاش ودي عبر البريد الإلكتروني جرنا إلى المقارنة بين العالمين الجليلين، ودون أن ينكر أي منا فضلهما في خدمة الشعب العراقي. ومما قاله الأخ الكفائي في هذا الخصوص أن فالح كان يقول عن علي الوردي (أنه استاذه ومعجباً به… ). ويعلق الصديق قائلاً: (… ولكن فالح أعمق وأكثر جدية منه وأكثر دقة. علي الوردي يتميز بأنه كان يكتب للناس الاعتياديين وهذا سر نجاحه، بينما فالح يكتب للمتخصصين…). ثم عدد الأخ الكفائي نقاط الاختلاف بين المفكرين العملاقين، مثلاً قوله أن (فالح اهتم بكيفية بناء الدولة العصرية ومسؤوليات هذه الدولة تجاه المجتمع وإمكانية تغييره نحو الأفضل عبر الدولة، بينما اهتم الوردي بشخصية الفرد وتفكير الأفراد، ودور رجال الدين فيه، وفي اسناد الحكام ونحى بذلك منحى تأريخيا فاصبح مؤرخا من حيث يدري أو لا يدري ….إلى آخره).

هذه المحاورة الممتعة أوحت لكل منا بكتابة مقال حول الموضوع. الأخ د.حميد أن يكتب مقارنة بين هذين العالمين الجليلين. وأنا أكتب عن ضرورة التزام المصلح الاجتماعي بالوضوح والبساطة في كتاباته لإيصال أفكاره إلى أكبر عدد ممكن من القراء بغض النظر عن مستوياتهم الثقافية، مع التوكيد أنه من الصعوبة إيفاء الموضوع حقه في مقال، لأنه واسع وممتع ومتشعب خصوصا وأن المقال يتناول شخصيتين عملاقتين هما الوردي وفالح.
لقد قرأت جميع مؤلفات الوردي أكثر من مرة، كذلك كنت أتابع مقالات فالح على الانترنت، واحتفظت بالكثير منها في حاسوبي، منذ عام 1999. كما وقرأت له عدة كتب عندما كان عضواً في الحزب الشيوعي. ولكن لم يخطر ببالي أنه فاق العلامة علي الوردي… فكل شيء ممكن، ولا شك أن الراحل كان معجباً بالوردي. والجدير بالذكر أني عارضته مرة في عام 1999 عندما نشر مقالاً في صحيفة السفير اللبنانية، بعنوان: (معارضة تاريخية.. معارضة ظرفية)، وكان ضد تحالف المعارضة مع أمريكا في ذلك الوقت، بينما أنا كنت مع الرأي القائل أن المعارضة لوحدها لا تستطيع إسقاط النظام بدون الدعم الأمريكي، لذلك كتبتُ رداً عليه بمقال: (معارضة عملية… معارضة شعاراتية)، ونشرته السفير أيضاً، ومازلتُ محتفظاً بالمقالين. كذلك شاركتُ معه مرة في ندوة في لندن بعد سقوط النظام، وكعادته، كان رائعاً. لا شك أنه مؤسف جداً أن نخسر هكذا قامة علمية وطنية باسقة، وهي في أوج عطائها الفكري والنضالي.
والجدير بالذكر، أن هناك اتجاهين لدى الإصلاحيين، الأول يرى أنه من الأفضل أن يبدأ الإصلاح الاجتماعي، أو السياسي، أو الديني، من فوق إلى القاعدة (Top down)، أي أن يكسب المصلح الطبقة السياسية الحاكمة، والنخب المثقفة من المتخصصين الإنتلجنسيا. ويبدو أن د.فالح عبدالجبار كان من هذا الاتجاه. لذلك كان يخاطب المتخصصين والنخب المثقفة. أما الاتجاه الثاني فيرى البدء في الاصلاح من الجماهير أي من القاعدة إلى الأعلى (Bottom up). وعلي الوردي من هذا الاتجاه، لذلك اتبع اسلوباً اتصف بالبساطة والوضوح لمخاطبة الجماهير وكسبهم، وقد نجح في ذلك.
لا شك أن هناك فوارق كثيرة بين على الوردي و فالح عبدالجبار، فالأول كان أستاذاً جامعياً وأكاديمياً في علم الاجتماع، ولم يكن سياسياً أو منحازاً لأي حزب سياسي، وجاء في عهد يختلف كلياً عن العهد الذي عاشه الثاني. ولكنه في نفس الوقت كان الوردي جريئاً في انتقاده الشديد للسلطات المتعاقبة، والجماهير، ورجال الدين المثاليين، وخاصة الذين كانوا يداهنون السلطة عبر التاريخ، فأطلق عليهم عبارة (وعاظ السلاطين) التي هي من ابداعاته، وكان على الدوام ومنذ العهد الملكي يطالب بتبني النظام الديمقراطي الليبرالي دون كلل أو ملل.
بينما الراحل فالح عبدالجبار انخرط في الأحزاب السياسية الثورية، ففي بداية نشاطه السياسي في شبابه انضم إلى حزب البعث، وحتى كان حرساً قومياً أثناء انقلاب 8 شباط 1963 الدموي. ولكن ما يُسجل له أنه أدان هذا الحزب الفاشي، وتبرأ منه، والحزب مازال في السلطة، وانضم إلى الحزب الشيوعي المعارض الذي كان مضطهداً من قبل سلطة البعث، ومعظم أعضائه إما مشردون، أو في السجون يواجهون الموت والتعذيب. وهذه صفة نادرة في التاريخ، ودليل على وعي وحيوية ضمير فالح. كذلك ومنذ التسعينات من القرن الماضي استقل الدكتور فالح وكما الوردي، تبنى الديمقراطية الليبرالية، وواصل نشاطه كباحث أكاديمي مستقل في الشأن العراقي.
فأي من المدرستين (Bottom up Vs Top down) على صواب؟
في رأيي أن المصلح الاجتماعي والسياسي يجب أن يكون واضحاً في لغته، وطرح أفكاره كي يفهمها الناس الاعتياديون قبل المتخصصين، ليكون لكتاباته تأثير فعّال على أوسع الجماهير، وبالتالي يكسب الشارع إلى جانبه، وهذا ما اتبعه الوردي وحقق نجاحاً باهراً كما أشرنا أعلاه. فعلي الوردي لم يكن حكواتي أو قصخون، كما يتصور البعض من نقاده، بل كان مصلحاً اجتماعياً من واجبه إيصال أفكاره التنويرية إلى جماهير الشعب، بأسلوبه السهل الممتنع، يضفي عليها بعبقريته البساطة، ويجعلها سهلة الفهم من قبل الناس ومهما كان مستواهم التعليمي أو الثقافي.
أما إذا كتب المصلح للخاصة المتعلمين وبلغة غامضة ورطانة علمية لا يفهمها إلا المتخصصون، ترفعاً على العوام، فهو كما يقول المثل المصري: (يبيع المية في حارة السقايين). و مما يذكر أن هناك كتّاب وفلاسفة إما يتعمدون في جعل كتاباتهم غامضة على الفهم، وذلك باستخدام الحذلقة اللفظية، والتعبيرات المزوقة، واستخدام الرطانة العلمية (jargons)، أو ليست لديهم فكرة واضحة لينشروها بوضوح.
وفي هذا الخصوص يقول الفيلسوف الأمريكي دانيال دانيت، أستاذ الفلسفة في (MIT)، في كتابه القيم (Breaking the Spell)، أنهم دعوا مرة الفيلسوف الفرنسي ميشال فوكو، ليلقي محاضرة، وبعد أن انتهى من الإلقاء، سألته سيدة: يا سيد فوكو نحن فهمنا محاضرتك، وكنتَ واضحاً في كلامك، فلماذا جميع كتاباتك غامضة يصعب علينا فهمها؟
فأجاب فوكو قائلاً، أن السبب هو أن في فرنسا عادة متأصلة، إذا كان الكاتب واضحاً في كتاباته لا يعترفون به كفيلسوف، لذلك، وليعترفوا به فيلسوفاً، ولا يتهمونه سطحياً، يجب عليه أن يجعل على الأقل 25% من كتاباته غامضة عصية على الفهم!!!
هذه العادة، مع الأسف، شائعة في مجتمعاتنا العربية أيضاً، إذ هناك رأي مفاده أنه كلما صعب علينا فهم كتاب أو مقال، كان دليلاً على عمق ثقافة الكاتب والكتاب، وأن القارئ لم يصل بعد إلى مستوى يجعله يفهم ما يقوله الكاتب!
لذلك أنا أميل إلى أسلوب الوردي الواضح، ومن دون حذلقات لفظية، وتعبيرات غامضة. فالبساطة والوضوح في التعبير فن يطلق عليه (أسلوب السهل الممتنع). وفي هذا الخصوص يقول أينشتاين: “إذا لم تستطع شرح فكرتك لطفل عمره ستة أعوام، فأنت نفسك لم تفهمها بعد! فأي أحمق يستطيع أن يجعل الأمور تبدو أكبر وأكثر تعقيداً، لكنها تحتاج للمسة من عبقري لتبدو أبسط!”
على أية حال، وبالعودة إلى كتابات الراحل فالح عبدالجبار، فإنها لم تكن من الغموض والتعقيد بحيث لا يمكن المتعلم العادي أن يفهمها. ولا شك أن بحوثه كانت عميقة ودقيقة، وأنها كانت موجهة للمتخصصين لكي يكسبهم إلى الإصلاح. وكما استنتجنا (الأخ الكفائي وأنا)، أننا في الحقيقة بحاجة إلى الإثنين، الوردي وفالح، فكل منهما مكمل للآخر. ولهما الذكر الطيب.

abdulkhaliq.hussein@btinternet.com
http://www.abdulkhaliqhussein.nl/

روابط ذات صلة:
1- د. حميد الكفائي: فالح عبد الجبار: عاش فاعلاً ومات واقفاً
http://www.alhayat.com/Opinion/Hamid-Al-Kafaee/27772590/فالح-عبد-الجبار–عاش-فاعلاً-ومات-واقفاً

2- الموقع الفرعي لفالح عبدالجبار في الحوار المتمدن

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة