عبد علي حسن
تكتسب (الأنسنة) — بعدها مدخلا سرديا — أهمية في تضمين القص منظومات فكرية تنحو نحوا رمزيا او إحاليا ، لإستخلاص موقف ما او وجهة نظر ما ، وهي — الانسنة — بهذا المعنى محاولة لتقديم فهم خاص بخصائص الأشياء من حيوات وجماد ومفاهيم معنوية وإقامة تعالق بينها وبين الانسان ومايدور في خلده من أفكار عبر اكساب تلك الأشياء صفات وخصائص انسانية تخرجها من تشكلها التكويني المجرد والمستقل عن الطبيعة البشرية وما تتصف به ، بغية بث خطاب تعليمي او حكمة ما تستبطنها العلائق الجديدة التي يخلعها السارد على الأشياء ، اذن هنالك قصدية في استحداث آلية لتخليق معنى ملغزا او مضمرا يسحب القاريء الى متطقة الجدل للتوصل الى المغزى المنفتح على تأويلات متعددة ينشط من خلالها النص ليمد من مساحة تعالقه مع القاريء ، على ان نجاح استخدام هذه التقنية يتوقف على قدرة السارد في تأكيد خصائص الحيوات والأشياء القارة في ذاكرة المتلقي الفردية والجمعية وكذلك القدرة على تخليق علاقات موضوعية تشكل أطراف دلالية متصلة وغير منقطعة عن حالة المشابهة بين السرد الظاهري والنص المستبطن كيما يتمكن القاريء من بناء معادلاته الدلالية ، على ان هنالك مستويات عدة لهذه (الأنسنة) تحيط بالتعالقات المختلفة تبعا للأشياء والحيوات التي يجد فيها النص امكانية تقديم رؤية مختزلة ومكثفة تحيل الى وضع انساني استفادة من الخصائص التكوينية لتلك الحيوات والأشياء المؤنسنة ، وقد تمكنت قراءتنا لمجموعة القصص القصيرة جدا (السنونو ) الجديدة للقاص والروائي العراقي حنون مجيد الصادرة عن دار غراب للنشر والتوزيع / القاهرة / الطبعة الأولى/ 2017 ، من تحديد ثلاثة مستويات لإستخدام آلية الأنسنة التي تبدت في خمس وعشرين قصة قصيرة جدا من مجموع قصص المجموعة البالغة خمسين قصة، اي ان نصف المجموعة قد استخدم فيها هذه الآلية ، وهذه المستويات كانت كالتالي :–
1- – تعالق الإنسان والأشياء.
2- – تعالق الأشياء والحيوات مع بعضها.
3- – تعالق المفاهيم المعنوية المجردة مع بعضها.
ففي المستوى الأول يبنى الحدث وفق علاقة تفترض تفاصيلا حياتية مألوفة لدى المتلقي يراد منها لفت انظاره الى وضع يخص الإنسان او الشيء المؤنسن ، كما في قصة البهائم ( لم يطرف لهن جفن وهن يرينه يستل من بينهن أختا ، كما لم يذرفن دمعا وهن يرينه يجرد سكينا، ولم يحزن أي حزن وهو يفصل الرأس عن الجسد ، أو يقطع اللحم ويهشم العظم ، انما مضين يعلفن كي يسمن للوليمة القادمة ….النص ص8) . فالنص يكثف حدثا مألوفا وهو إختيار القصاب لواحدة من الخراف ليذبحها ، وهو أمر مألوف للخراف ذاتها الا انها لاتملك ان يطرف لهن جفن أو يذرفن دمعا أو يحزن ، ومقابل هذه المألوفية لايملكن سوى المضي بالتهام العلف كي يسمن استعدادا لذبح قادم ، على ان النص لايتوقف عند حدود الوظيفة المرجعية القارة في وعي المتلقي وانما ينفتح على قراءة تأويلية تشكلها الوظيفة الشعرية الخاصة بتحول النص الى توكيد الفعل التالي لعملية ذبح الخروف الأول ، وهو المضي بالعلف تكريسا لحالة الاستسلام لسطوة وسلطة القصاب ، اذ ان النص المستبطن يحيل الى تأكيد السلطة وفعلها المحبط لكل أمل وطموح بالنجاة ، وتبديد امكانية تشكل رد الفعل لما سيحصل وهو واقع الحدوث ، فالمفارقة لم يشكلها قلب الحال كما هو معروف عن فعلها وانما تشكلت وفق بنائية رد الفعل الذي نجم عنه تخليق بنية الاستسلام وقهر السلطة .
وفي قصة (مشيئة الريشة) يحاول النص ومن خلال الحدث الواحد المكثف وهو انتهاء الرسام من رسم الطائر الذي يحبه وهو محاط بالزهور والورود ، وحينما حاول الطائر مغادرة اللوحة ليطير التفت حوله الزهور لإعاقة طيرانه وحينما استنجد بالرسام قال له ( هذا لأنك طائر نادر، ولوكنت غرابا لأختلف الأمر، رد الطائر وماذا لو رسمتني غرابا؟ أجاب الرسام تلك مشيئة ريشتي لا مشيئتي! ……. النص ص22) فالنص يكشف عن رغبة الطائر في تحقيق انتمائه الى الطبيعة عبر الانعتاق من اللوحة التي هي بمثابة القيد او القفص له ، مفضلا رسمه على هيئة غراب لاطائر نادر لينطلق باتجاه الطبيعة ، ولعل اجابة الرسام بأنها ليست مشيئته وانما مشيئة الريشة هي ما سمحت بكشف الغموض في ابقاء الطائر في اللوحة مشكلة مفارقة النص التي حفزها سؤال الطائر (وماذا لو رسمتني غرابا؟) الذي يستبطن استفاهما يكشف عن محاولة الطائر لمعرفة القبيح من الجميل ، فالجمال الذي يتمتع به طائر اللوحة كان سببا في محاولة الزهور اعاقة طيرانه وابقاءه ضمن مكونات اللوحة التي شاءت فرشاة الرسام اختيار ماهو جميل .
وتكشف نصوص المستوى الثاني من مستويات التعالق مع (الانسنة) محاولة الاقتراب من المشاكل الانسانية عبر استثمار الخصائص التكوينية للحيوانات وزجها في مواقف تحيل الى وضع بشري معين يراد بذلك تكريس افضلية بعض مايتمتع به الحيوان من خصائص على الانسان ، فنقرأ في نص – عالم مغلق — ( قالت القطة لأختها القطة :- مالصاحبنا يحمل عصاه علينا اليوم ؟ ردت :- لعله يلهو . قالت ايلهو بعصا؟ اجابت ربما برصاص غدا . دعتها :- اذن لنرحل الى عالم ليس فيه رصاص ،قالت:- لن تجدي!……….. النص ص24) ، فالعلاقة بين القطتين وما كشفت حواراتهما تشير الى معاناة من التعامل القاسي الذي يعاملهما فيه (صاحبهما) واحتمال استخدامه للرصاص غدا بدلا من العصا ، واذ تقترح احداهما الرحيل الى عالم ليس فيه عصي ولارصاص تجيب الأخرى (لن تجدي!) لتأكيد الحال الذي وصل اليه البشر في تضاداتهم وخصوماتهم المتصفة بالعنف .، فمفردة (لن تجدي) شكلت مفارقة النص التي كسرت توقع افق المتلقي في امكانية وجود عالم خال من العنف وهو ما نعده النص المستبطن للحدث وما آل اليه حوار القطتين .
وفي نص — السنونو — يطرح القاص رؤيته لماهية القصة القصيرة جدا عبر الحوار بين الحمامة والغراب (سألت الحمامة الغراب :- ماتعريفك للقصة القصيرة جدا ياغراب؟ قال :-هي خطف على الحياة لخطف ما يخطف ، قالت :– قل هي السنونو ياغراب ، قال احسنت هي السنونو ياحمامة!……..النص ص 25) فالنص هنا يحاول ان يؤكد خاصية القصة القصة القصيرة جدا عبر خاصية طائر السنونو الذي توصلت اليها الحمامة بعد معرفتها لجواب الغراب بأنها (خطف) ويؤيدها الغراب لهذا التوصيف الذي يكشف عن مهمة القصة القصيرة جدا باقتناص الحدث او اختلاقه ليكون متفردا مفعما بالدهشة وهو ما اسماه النص ب(الخطف) ولعل هذا مايكشف دلالة عنوان المجموعة (السنونو) ليؤكد الخاصية البنائية للقصة القصيرة جدا عبر استعارة الخاصية الحيوانية لطائر السنونو وهي السرعة الفائقة والخطف الذي تعرفه الطيور كما الحمامة والغراب . اذ كان العنوان وفق هذا التوصيف بأن مجموعة القصص القصيرة جدا هذه انما هي (خطف) لأحداث حياتية واقتناص سريع لحدث ما يؤول الى معنى ما عبر جمل قصيرة وحدث واحد وشخوص قليلة ليكتمل بنائها الاجناسي .
وفي قصص المستوى الثالث يقيم القاص علاقة بين مفاهيم مجردة قارة في المنظومة الفكرية والاجتماعية للمتلقي كاشفا عن وجهة نظره ازاء هذه المفاهيم وماتؤول اليه ، ففي نص –حوار الأمانة والغش — ( قالت الأمانة للغش ؛ انت تصطبغ بلوني فتغش الناس ، ومن غشنا ليس منا، رد الغش؛ هذا لكي اعيش، ردت الأمانة ؛ ولكن مرة واحدة وليس مرات، فمن يعش بالحيلة يمت بالفقر، اما سمعت؟ قال بلى سمعت وكنت كلما نظرت حولي قلت « مثل قديم «، ولا ادري حتى الآن إن تغير شيء ! ………… النص ص 14) فالنص يستثمر التضاد القيمي بين مفهومي الأمانة والغش اللذين انتجتهما المنظومة الإجتماعية ليتجسدا بشريا ليكشف النص عن الوهم الذي يعيشه (الغش) وهو امكانية تغير المثل الذي ضربته الامانة للغش ، مبينا أنه يعرف معنى المثل وبأنه قديم متناسيا ثبات هذه المفاهيم التي تبث منظوماتها القيمية بصرف النظر عن أي تحول ، وإذ يؤكد النص حقيقة ثبات هذه المباديء عبر استخدامه للمثل السائر بين الناس ومحاولة الغش في ايهام ذاته بأن قدم المثل قد يبرر استمراره في التظاهر بالأمانة ليصل الى تحقيق مآربه التي لايمكن تحقيقها الا بالإحتيال والغش ، ولعل الجزء الثاني من النص الذي يبدأ من جواب (الغش) عن سؤال (الأمانة) ب (بلى…حتى نهاية النص ) يشكل انحرافا او كسرا في توقع افق المتلقي مما كون بناءا تعويضيا للمفارقة التي اتخذت وضعا غامضا يضع المتلقي في دائرة الجدل وامكانية التأويل .
وفي النص الثاني (افتراق ) يشكل القاص جدلية بين مفهومين متناقضين على مر الزمان والدهور وان اختلفا ففي مكوناتهما ، وهما الجبن والشجاعة ( سأل الجبن من لايعرف اسما له؛ اتعرف الجبن؟ قالت الشجاعة لمن لاتعرف له اسما كذلك؛ كلا وأنت اتعرف الشجاعة؟ رد الجبن كلا ، قالت وهي تنهض ؛ اذا لنفترق، قال وهو يغادر؛ هو ذا الرأي الحكيم ……..النص ص8) فالنص يفترض مكانا يجتمع فيه الجبن والشجاعة مع عدم معرفة أحدهما بإسم الآخر ، وافتراقهما عند اكتشاف عدم هذه المعرفة ليؤكد استحالة اجتماع الإثنين ، فإقتراح الافتراق كان من قبل الشجاعة وقد قبله (الجبن) لمعرفته بعدم امكانية بقاءه مع آخر لايعرف اسمه . ويشير النص المضمر الذي استبطنه السطح الظاهري للنص الى عدم امكانية تحلي المرء بأكثر من صفة من الصفات المتنافرة ، وعلى الرغم من خلو النص من المفارقة اذ انه لم يشر الى اي تقاطع يذكر فضلا عن اتفاق توقع افق المتلقي مع توقع النص ، الا ان الترميز والإحالة غير المباشرة تضع القاريء في دائرة مسائلة النص للوصول الى مغزاه النهائي .
* من خلال كل ماتقدم ذكره من الاشارة الى وجود قصص استخدمت آلية ( الأنسنة ) في مجموعة (السنونو ) للقاص والروائي العراقي حنون مجيد ، ومستويات هذه الانسنة والتمثيل لها تحليليا نستنتج ما يلي :-
1– ان اعتماد (الانسنة) في قصص المجموعة كان بدافع الترميز والإحالة الدلالية لوضع اجتماعي وانساني .
2:– ان استخدام هذه الآلية بدافع استثمار الخصائص المعروفة والقارة في ذاكرة القاريء للحيوات والمفاهيم التي شكلت ابطالا للقصص المذكورة وامكانية توفير فسحة للمتلقي لتكوين معادلات دلالية بين داخل النص وخارجه .
3:- – ان الهدف من انسنة الحيوات والاشياء والمفاهيم التي تضمنتها القصص كان وسيلة وليس هدفا بحد ذاته ليكشف النص عن بنيته الفكرية، و قد تبدى ذلك في الإختيار الواعي للحيوات و الأشياء المؤنسنة.
4- – اتسمت النصوص بالطابع التجريبي الذي تجاوز بعض المكونات البنائية للقصة القصيرة جدا كالمفارقة التي تعد حجر الزاوية لهذا النوع السردي والاستعاضة عنها ب(خبر) يعد في احيان كثيرة تماهيا واتفاقا مع توقع افق النص، و بذا فقد خلت هذه النصوص من عنصر المفارقة و الدهشة وتوقف النصوص عند حدود التقريرية والخبرية.
5– اعتماد الترميز والإحالات والغموض في بنائية القصص مما اكسبها الوضع التجريبي في تجاوز الثابت في اسس القصة القصيرة جدا .
6– التزام قصص المجموعة بوجود الحدث الواحد (الخاطف) و المكثف والشخصييات القليلة ووحدة المكان ولازمنية الحدث خاصة في القصص التي استثمرت آلية الانسنة والتناص والغموض وانفتاح النصوص على تأويلات متعددة .
اخيرا تشكل هذه المجموعة ( السنونو) إضافة مهمة لمنجز القاص حنون مجيد في مجال كتابة القصة القصيرة جدا اذ انه اصدر اكثر من مجموعة لهذا النوع السردي المهم ، كما يضاف هذا المنجز الى ما أنجزه القصصاصون العراقيون في تكريس وترسيخ الأثر الثقافي للقصة القصيرة جدا في المشهد السردي العراقي .