علي حداد.. القصائد بوصفها هواجس الأمكنة

يرتبط الشعر بالفكرة الفائقة دائما، وكلُّ كتابة شعرية ترتبط بتمثّل هذه الفكرة من خلال فاعلية الانزياح، بوصفها محاولة في التعبير عن تلك الفكرة، عبر الاستعارة والمجاز، أو عبر تقانات التأليف والتكوين والاختزال، وبما يُعطي لدالة الشعر مجالا للتأويل، ولتوصيل المعاني بطرقٍ شتى..
يضعنا الشاعر د. علي حداد أمام لعبة كتابة الأفكار، بوصفا وعيا، ورسالة، إذ يمنح هذه الكتابة خصوصية أنْ تكون توصيفا لخطابه الشخصي، الخطاب الذي تستغرقه هواجس الاستعادة، ورؤيا الشاعر الباحث عن الغائب، والمقصي، والبعيد…
يكتب علي حداد عن المكان، بوصفه هاجسه الشخصي، والذي يستدعي من خلاله أسماءً وامكنة بعيدة، وأرواح غائبة، تلك التي يُعيد لذة اكتشافها واستحضارها..
شعرية المكان هي الشعرية الفاعلة، في مشغل كتابه الشعري( تماما..كما تحدث الموجة الموج) الصادر عن دار العصامي/ بغداد/ 2016 إذ بدت هذه الشعرية وكأنها هي جوهر فكرته الفائقة، فكرة السؤال والبحث والاستدعاء والوجود والمعنى، حيث تستغرقه لذة التقاط ما ينثال منها، وما تفضي به معانٍ، هي هواجسه، وهي مرقاته الى سر الفكرة.. قصائد الكتاب تتجوهر عند حافات تلك الشعرية، تؤنسنها، تتخلّقها مسكونة بالتفاصيل، تلامس سرائر نسغها، إذ توهبها شغف الاستعادة والتشهي، ورؤيا ما يجوس به المكان من حميمية، ومن أرواح غائبة..
لكلِّ مكان تضاريسه، وروائحه،
ونقوش على صدره تتحدث عنه
وكف من الاستمالة
تُدنيك شيئا، فشيئا إليه،
لينسجم الصحو بينكما
هكذا.. كنت أحكي لنفسي
التي أدهشتها تفاصيل هذي المدينة..ص103
المكان اليمني هو الشفرة الدافقة والمُستعادة، هو الاستعارة الكبرى التي إتكأ عليها علي حداد، وكأنه يحاول عبر أسطرة ماتوحي به، أنْ يختصر عوالم المعيش والمجاورة والذهاب بالقصيدة الى زمن شعري، له دهشة الانسحار، وخفّة النفور، وغواية الاعتراف..
قصائد مسكونة بالحياة، تتقصى الغياب بوصفه حضورا مدهشا، تستنطق سرائر المكان الأليف، تُبجّله، ترمم خرائبه، تهجس لأرواحه بأناشيد فائقة العذوبة..
لايقع علي حداد في هذه القصائد تحت وطأة الذكرى، بل يجد نفسه يكتب تاريخا شخصيا له، تتضح فيه ملامح الأشياء والتفاصيل واليوميات والأصدقاء الراحلين والعالقين بالحياة والطبيعة، إذ تتبدى رؤيته مكشوفة أمام لعبة باهرة، فيها الكثير من الوضوح التواصل، القريبة من لذة من يكتب سيرته، أو يفتح قمصيه لريح طيبة..
قصائد الكتاب تقترح قارئا لها، فهي الأقرب الى قصائد التعرّف، حيث تستدعي القصيدة الشخصية، مجال القراءة، عبر توظيف تقانات الدراما، وحميمية المشاعر، تلك التي يشتبك فيها السيري بالرؤيوي، والحسي بالتأملي، واليومي بالعمومي، وبما تتركها أثره على القارىء ذاته، الباحث عن سر الأمكنة، الأفكار التي تصطخب فيها، أو التي تُحفّزه على التلذذ بفعل الاستعادة..
كان يترك شجو القصيدة
مرتهنا لاحتمالاته
ويذهب كيما يرى بيته
(وهو لم يكتمل بعد)
ليتابع بعض التفاصيل
حول الطلاء
وشكل المصابيح، لون الستائر
ماذا سيزرع عند المداخل
وما كان يصغي لهذا الرسيس
الذي يتصاعد من حوله:
أن لابيت يسكنه المبتل بالشعر
غير القصيدة..
يظلّ علي حداد شاعر أفكار، وشاعر رؤى، والتزاوج مابين الرؤيا والفكرة هو المجال الذي يشيء بشعرية التفاصيل، حيث يتبدى المكان اليمني، والمكان الواسطي بوصفهما مكاني الاستعارة والاستعادة، والوجود بدلالاته المشحونة بهواجس الاغتراب، والمنفى، وبأسى البعيد الذي يكتب القصيدة وكأنها شفرته في الاقتراب والاكتمال..

علي حسن الفواز

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة