الثقافةُ في المقدّمة

محمد بنيس

1. لنتركْ جانباً ذلك الحديثَ الحميم عن العبَث أو اللامعنى في حياتنا، ولنلتفتْ إلى كلمة واحدة، هي الثقافة. يبدو لي أن هذه الكلمة هي التي بمقدورنا الانتباه إليها، في زمن أصبحت العروبة في مهبّ الريح. فنحن كلما تقدمنا، اليوم، في تأمل ما نعيش، اتضح مشهدُ الفاجعة التي لن تكون عابرة. أحياناً تُصيبني كآبة لا أعرف كيف أتخلص منها. ومعها ينتفي كلُّ كلام. لكن الصحوة تفاجئني، على حين غرة، وأنا أنتقل بين بلدان وحضارات أو بين كتب وأعمال.
ليس هذا كثيراً في زمننا. لذا ألخّص ما أراه ممكناً، في كلمة الثقافة. نعم، هي كلمة يصعب الدفاع عنها، بل هي كلمة يكاد النطق بها أن يكون اليوم مستحيلاً. وإن اعتقدنا أن في هذا الوصف مبالغة، فما أظن هذا الاعتقاد سوى تعبير عن وعْي ساذج. قضيْنا ما يقرب من قرنين من أجل أنْ تصبح الثقافة مشتركة بين جميع أبناء البلد العربي الواحد، ثم بين جميع أبناء البلاد العربية. ما يقرب من قرنين، وما هو عليه البلاد العربية من نفور من الثقافة دليل على اندحار فكرة الثقافة ذاتها.
2. غالباً ما خلطت الدولة بين العلوم الدينية وبين الثقافة بمعناها العلمي والأدبي والإنساني. أو هي سلّمت بأن الثقافة هي الترفيه ونشر المعارف بطريقة سطحية أو إعلامية. بهذا اكتفت بأن تجعل الثقافة مادةً قابلة للتصالح مع نظامها سياسياً وعقائدياً واجتماعياً. نظام تتعارض معه الثقافة باعتبارها منظومة من القيم الفكرية والجمالية النقدية. وإن هي اصطدمتْ بثقافة نقدية، عربية أو أجنبية، بادرت إلى مصادرتها بعبارات لبقة، أو بألفاظ صريحة في قساوتها عند الضرورة. كثيراً ما كنتُ أحتار، مثلاً، في فهم موقف بعْض المؤسسات، الثقافية والتعليمية والإعلامية، من أعمال تتناول الدين والجنس والأخلاق، من خلال سلوكات فردية أو مواقف فكرية وجمالية. لا تتحمّل هذه المؤسسات أن تسمح لعمل، بل لنص من النصوص التي تتناول واحدة من هذه المجالات أو بعضها جنب بعض، أن يقع في يد القراء، من التلاميذ إلى الأشخاص البالغين، أو يقدم إليهم في شكل سمعي أو بصري. مجرد ذكر كلمة تنتمي إلى هذه المجالات تضع العمل أو النص في لائحة الممنوعات. ولا يدري، الذين يمارسون الرقابة أو يقومون بإصدار حكم المنع، أنهم يبررون إشهار المتزمتين سيف الفتوى بالإلحاد في حق المؤلفين والمبدعين. ولا تسأل عمّا يلي الفتوى.
كنت أحتار، لأن القائمين على منع كهذا يقدّمون أنفسهم على أنهم متفتحون على الثقافة، مدافعون عن الجديد، حريصون على نشر وعْي يستجيب لزمن حديث، متفهمون لحاجيات إنسان يعيش في مجتمع يتفاعل مع العالم، الذي هو في النهاية غربي، أساسه قيم، منها الحرية والديمقراطية.
3. ازدواجية في الموقف تبيّن لي أن خطورتها أعمقُ من خطورة المتزمتين، الذين لا يكفّون عن التصريح بأن في الدين والفكر الديني جواباً عن كل ما يحتاج إليه الإنسان. فهي تضاعف من الأسوار التي تمنع الثقافة باسم الثقافة، تمنع الحرية باسم الحرية، ولا أقول عنها إنها تمنع الديمقراطية باسم الديمقراطية، لأن الديمقراطية كلمة تم الاستحواذ بسهولة عليها، من خلال كلمة الشورى، ذات الرنين الذي يبعث الراحة في النفوس.
هي ازدواجية لم تنجحْ في تعليم الأجيال المتلاحقة قيماً حديثة، ولم تؤدّ إلى جعل الفرد ينتقل إلى وضعية الشخص الذي يتحمل المسؤولية في اختياراته، ويكون مستعداً ليؤدي ثمن هذه الاختيارت، أكانت تتصل بقضايا عادية أو قضايا مصيرية، تتعلق بالحياة المشتركة. وعندما يحصل الخلل تنسى الدولة أن مصدره في التوجيه الفاسد الذي أعطته للثقافة، فلا تفكر إلا في تدخل العنف بتسمية الحل الأمني، رداً على كل ما لا يتوافق مع اختيارات سلطتها.
لذلك، أعود وأقول الثقافة، بدون أيّ رقابة على الثقافة. فنحن، أحببنا أم كرهنا، نحصد ما زرعنا، وسيطول زمنُ الحصاد. هو حصاد المزيد من المآسي. فلا تحزن. غيّر وجْهة نطرك، وانتبهْ إلى هذه الكلمة، الثقافة.

*نقلا عن موقع ضفة ثالثة

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة