بعيدا عن الخطابات العقائدية والآيديولوجية الضيقة، نحتاج الى شيء من الشجاعة والمسؤولية كي نفك طلاسم ما انحدرنا اليه وطناً وشعباً من ضياع ودمار. شجاعة في مواجهة إمكانياتنا الفعلية على التغيير، لا المزيد من فزعات الهروب للأمام، لنحصد المزيد من الهزائم والخيبات. علينا الاتفاق على حقيقة أن المشهد السياسي والاجتماعي والفكري قد ازداد التباساً فيما يفترض أنه مرحلة لتطبيق العدالة الانتقالية، والتي تحتاجها الشعوب عند خروجها من هيمنة النظم التوليتارية. ومسؤولية، كي لا نتصرف بخفة مع التحديات الخطيرة التي تواجهنا جميعا، مسؤولية في التعاطي مع ما ينتظرنا تحقيقه، من أجل وضع عربة التغيير على الطريق الصحيح، لا ادعاء امتلاكنا للبدائل الجاهزة بمحض رفعنا ليافطات الإصلاح والتغيير. أن الورطة الوطنية التي نتحدث عنها، والتي ما زلنا عاجزون عن تفكيكها والنجاة من فصولها المميتة، لم تظهر فجأة مع زوال النظام المباد كما يصر ممثلي غير القليل من الفصائل والواجهات السياسية، فقد تم وضع حجر الأساس لها بعد اغتيال الجمهورية الأولى وتم حفر أساساتها وبناء هياكلها خلال ربع قرن من حكم “جمهورية الخوف” ومن ثم تواصلت عمليات بنائها مع الكتل التي تلقفت مقاليد أمور الوطن والناس بعد “التغيير” ربيع العام 2003. لهذا تتواصل الورطة؛ فلا من يحن لكل ما يتعلق بالنظام المباد يمتلك حلولاً، ولا من تلقف صدفة التغيير التأريخية التي منحتنا إياها الأقدار العابرة للمحيطات، بحوزته مشروعا ورؤية وملاكات للخلاص من هذه الورطة.
عمق محنتنا هذه نجدها لا عند أطراف المعسكرين الذين أشرنا لهما وحسب بل أكثر من ذلك عند الجهات التي توهم المتضررين من كل هذا الخراب والضياع؛ بوهم امتلاكها للحلول والبدائل، وعند الكثير من “المثقفين” و “الإعلاميين” الذين يطلقون التحليلات والتقديرات السطحية والمتسرعة لقضايا غاية في التعقيد، لا سيما عندما يمزجونها بسيل من الأكاذيب والعبارات والشعارات الجميلة مقطوعة الجذور ومخطوفة من سياقاتها وشروطها الموضوعية. هذه النشاطات لا تقل فتكاً عما خلفته سياسات معسكري القتلة واللصوص؛ لأنها تعيق عملية نمو ونضج البدائل الواقعية والمشاريع التي بمقدورها انتشال مشحوفنا المشترك من كل هذه البرك الآسنة التي تحيط به.
إن حجم التورط الجمعي والفردي واسع وعميق، وكل الذين ما زالوا يقبضون على شيء من العقل والشجاعة والإنصاف يعرف أن حالتنا هذه، ينطبق عليها المثل العراقي المعروف (اليدري يدري والما يدري كضبة عدس). يكفي أن الكثير من المتصدين لمسؤولية الشأن العام سابقاً وحالياً، كانوا وما زالوا بأمس الحاجة للرعاية النفسية والعقلية، لا السماح لهم بالتسلل لتلك المواقع والمسؤوليات، وعلى رأسهم من شرّع بوابات الورطة، ثم انتشل مذعوراً من جحره الأخير. لذلك يعد كل استسهال لورطتنا الوطنية هذه، والاستمرار في تقديم الكبسولات الديماغوجية؛ إسهام مجاني أو مقصود لعرقلة المساعي الجادة لتلمّس الطريق من أجل الخلاص من هذا البلاء الوطني الشامل. لذلك كله لا ينبغي علينا إبداء التعجب والاستغراب من كل هذا الفشل الذي نواجهه، عبر إعادة تجريب المجرب وسلالاته والتي تقف بحزم وإصرار خلف ورطتنا الوطنية الخالدة..
جمال جصاني
الورطة الوطنية
التعليقات مغلقة