وراء كل شهيد أسرار

-1-
تُوقِفنا الدراسةُ المعمقة لِسِيرِ الشهداء منذ فجر الاسلام والى يوم الناس هذا على جملة أسرار مهمة، وبالتالي تكشف عما انطوت عليه شخصياتُهم من عناصر القوة في الايمان، والتطلع الجاد للذب عن الحق بعيداً عن كل الحسابات المشوبة بالأدران …
وتبرز الى جانب ذلك كله قراءاتُهم الفريدة لأنفسهم:
انهم ممن يتهمون أنفسهم ولا يزكونها، في مؤشرٍ واضح الدلالة على الصفاء والنقاء والسمو الروحي والأخلاقي.
-2-
( وثابت بن قيس ) هو واحد من الشهداء الأجلاء .
وكان يلقب بخطيب الأنصار وخطيب النبي (ص)
وقد شهد أحُداً وما بعدها .
وقد بشرّه النبي (ص) بالشهادة فنالها يوم اليمامة ( رضوان الله عليه )
بعد رحيل الرسول (ص) عن الدنيا .
-3 –
جاء في التاريخ :
انّ وفد بني تميم حين جاؤوا الى النبي (ص) جاء معهم خطيبُهم
وشاعرهم، فخطب خطيبهم ( عطارد بن حاجب ) وأنشد شاعرهم (الزبرقان بن بدر) فأرسل النبي (ص) الى ثابت بن قيس وحسان بن ثابت فأجاب ثابت خطيبهم وقام حسان وأجاب شاعرهم
فقال بنو تميم :
( انّ خطيبهم أخطب مِنْ خطيبنا وانّ شاعرهم أشعر من شاعرنا )
وبهذا تظهر براعتُه الخطابية الفائقة التي اعترف بها الجميع .
-4-
جاء في اسد الغابة في معرفة الصحابة ج1 ص 275 عن انس مالك :
انّ رسول الله (ص) افتقد ثابت بن قيس فقال “
” من يعلم لي علمه ؟ “
فقال رجل :
أنا يا رسول الله ،
فذهب فوجده في منزله جالساً منكسا رأسه ، فقال :
ما شأنك ؟
قال :
شر ،
كنت أرفع صوتي فوق صوت رسول الله (ص) فقد حبط عملي وأنا من أهل النار .
فرجع الى رسول الله فأعلمه ، قال موسى بن أنس :
فرجع اليه ، والله في المرة الأخيرة ببشارة عظمة فقال :
اذهب فقل له :
لستَ من اهل النار ، ولكنك من اهل الجنّة )
وفي رواية أخرى :
لما نزل قوله تعالى :
( يا ايها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهرِ بعضكم لبعض ان تحبط أعمالكم وانتم لا تشعرون )
الحجرات /2
دخل ( ثابت ) بيته وأغلق بابه ففقده النبي (ص) وأرسل اليه فسأله عن سبب انقطاعه فقال :
( أنا رجل شديد الصوت ، أحافُ ان أكون قد حبط عملي )
فقال له :
لست منهم، انك تعيش بخير وتموت بخير .
أرايتم كيف تفاعل (ثابت) مع القرآن ؟
وكيف خشي أنْ يكون ممن رفعوا أصواتهم فوق صوت النبي، فحبطت أعمالهم ، وامتلَكَتْه سورةٌ من الانفعال جعلته يلوذ بالاعتزال وينقطع حتى من الذهاب الى المسجد ..!!
هذا التدقيق في مسارات النفس ،
وهذه الخشية الكبيرة من اختراق الخطوط الحمراء .
هما من سمات الأبرار وهما من أعظم الأسرار .
-5-
وجاء في التاريخ ايضا :
انه لما نزل قوله تعالى :
( انّ الله لا يُحب كُلَّ مختال فخور )
لقمان / 18
أغلق ( ثابت ) بابَه عليه ، وطفق يبكي ، ففقده النبي (ص) وارسل اليه فسأله عن سبب انقطاعه فقال :
يا رسول الله :
اني أُحبُّ الجمال
وأحبّ أنْ أسود قومي “
فقال له (ص) :
” لستَ منهم ،
بل تعيش حميداً
وتُقتل شهيداً
وتدخل الجنّة “
تتجلى أبعاد الشخصية الرسالية في موقف ( ثابت ) الذي يتوجس خيفة من انطباق الصفات المذمومة في القرآن عليه، وهذا ما يوجب حزنه وبكاءه …
مع انه ليس ممن تنطبق عليه تلك الاوصاف .
-6-
وفي قصة ثابت بن قيس (رض) التي سردناها باختصار، مواضِعُ لابد أنْ يقف عندها كلُّ واحد منا ويسألها عن مدى انطباق المواصفات القرآنية عليه ؟
وهنا تكمن العظة .

حسين الصدر

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة