نقوش في الذاكرة

لا أعرف أين قرأت هذه العبارة ومتى. ولا أعلم من الذي أطلقها أول مرة. وربما كانت في الأصل عنواناً لكتاب شعري أو قصصي، ففيها من الرومانسية الشيء الكثير. وهي لا تفتأ تشير إلى حقيقة من حقائق الوجود التي لا يكاد يغفلها المرء في حياته اليومية.
ولكن هذه الميزة لا يتمتع بها الإنسان لوحده، فالحيوان يمتلك هو الآخر ذاكرة ما. وهو «ينقش» عليها بين الحين والحين بعض الصور والعلامات التي تجعله يتعلق بهذا الشخص أو ذاك! وعلى المرء أن يتوخى الحذر من ذكريات «مرة» يحتفظ بها ثور هائج، أو حمار حرون، أو كلب مسعور، أو غيرهم من خلق الله!
وعلى أية حال فإن فن القراءة الذي يتقنه البعض، ويدمن عليه، لا يجدي دون ذاكرة متوقدة، ولا ينفع بغير «نقوش» غائرة. وهو يتناسب عكسياً مع العمر. وقد لا يصيب طائفة من الناس، إلا من المؤكد أن للسن دخل في ذلك، وأن الصغار يحتفظون في مخيلتهم بأدق الصور، وأوضح التفاصيل!
غير أن المسألة تأخذ بعداً آخر حينما تتعلق بالتاريخ. فالآداب القديمة هي شفاهية في الغالب. بل إن الكتب السماوية وأحاديث الأنبياء، ومرويات الأئمة والمصلحين كانت محفوظة في الصدور لوقت طويل. فقد دونت التوراة في بابل بعد ثمانية قرون من نزولها. ودون أعظم كتب السنة النبوية في القرن الثالث الهجري على يد محمد بن اسماعيل البخاري المتوفى عام 256 للهجرة.
أما ملحمة الإلياذة لهوميروس فقد دونت بعد مئة عام من وفاة الشاعر، وكثيرون الآن يشككون بوجود هذا الشاعر أصلاً، ويرون أن ملاحمه الشهيرة هي نتاج أجيال عديدة من اليونانيين! في حين بقي الشعر الجاهلي عند العرب شفاهياً حتى انبثاق عصر التدوين في القرن الثاني الهجري. الأمر الذي سهل على طه حسين وأساتذته الفرنسيين وعلى رأسهم باشاليه أن يشككوا في جاهليته هذه.
ولكني أقطع أن النصوص العظيمة تستعصي على النسيان. وأؤمن أن الذاكرة الجمعية لا تغفل المطولات الجميلة. وأن من الصعب على الشعوب أن تسقط تراثها الشفاهي الذي تعتز به بهذه السهولة. فقد كان الحفظ آنذاك مهنة رائجة يثاب عليها أصحابها بالمناصب والأموال. ويقدمون على الجميع في المحافل والندوات العامة. ويرجع إليهم عند حدوث الوقائع والملمات. وكان لا بد لهؤلاء الرواة أن يعضوا بنواجذهم على هذه الميزة حتى يتمكنوا من الاحتفاظ بمكانتهم الاجتماعية تلك.
ليس من السهل التصديق أن مرويات الأقدمين التي بنوا عليها سلوكهم اليومي وعقائدهم الدينية
وثقافتهم الاجتماعية كانت مجرد أخبار مزورة أو مصنوعة. فهناك على الدوام ذائقة شعبية تستمد وجودها من الثقافة العامة للبلاد، وتستطيع بواسطتها فرز ما هو خاطئ، وما هو صحيح.
محمد زكي إبراهيم

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة