حين يتكلم الغروب النحيف

علوان السلمان

..الخلق الشعري..وسيلة تعبيرية ذات طبيعة جمالية ودلالة اجتماعية معبرة عن (الذات والذات الجمعي الاخر) وجدانيا وروحيا بتساق جملي منطلق من كوامن الروح.. ابتداء من الرؤية وانتهاء بالمحتوى الفكري..عبر فعل ابداعي.. تجريبي مغامر يعلن عن موقف ازاء الحركة الكونية بموجوداتها التي يحددها الفكر المنتج(الشاعر)..لذا فهو تجليات الذات المنتجة للإعلان عن صيرورتها من خلال افرازات الوعي الجدلي القائمة على التقنية والجمالية بتفجير اللغة وتحقيق البناء الصوري وتعميق الشعور التأملي والدلالي المحفز لذاكرة المتلقي..
وباستحضار المجموعة الشعرية (الغروب النحيف) بنصوصها المتنوعة..النابضة بالحياة واشكالاتها، والتي نسجتها انامل منتجها الشاعر وليد جمعة واسهمت دار الجمل في نشرها وانتشارها/2016..كونها نصوص منفتحة على آفاق دلالية وقيم اجتماعية بكل اشكالها(تفعيلة/نثرية مقطعية..) من اجل تحقيق موقف انساني من جهة، ومن جهة اخرى التعبير عن قيمتها الجمالية الخالقة لخطاب يتكئ على فضاء دلالي عبر بنية يغلب عليها الانزياح الذي يكشف عن اكتناز المخيلة الشاعرة بالمعطيات الحسية ابتداء من العنوان العلامة السيميائية والعتبة الدالة المستلة من متن احد النصوص( تنويمة الديدبان الملثم)..ص61
في الغروب النحيف
غبطة غامرة
خطى والدي من بـ .. ع ..يـ ..د /ص62
في الغروب النحيف
نذبح الذاكرة
هكذا تتخفى ـ اذن ـ شهوة الانتحار / ص64
في الغروب النحيف
اتذكر رأس الحواش
وعكد النصارى
والتسابيل
…ابكي ص64 ـ ص65
فالنص ينفعل ويتفاعل والهم الاجتماعي بنزعة وجدانية ورؤية متجاوزة في خلق الصور الثقافية المعبأة بطاقة اغوائية خارج نطاق اللغة..اضافة الى توظيف الشاعر تقنية قصيدة النثر باستخدام(الكتلة) لتحقيق المقطعية وتوزيع تفاصيل الصور عبر مشاهد تجمع بين عالمين:عالم الواقع وعالم الذاكرة.. اللذين يشكلان حركة النص الذي يعتمد الايجاز والتكثيف في ايصال فكرته الشعرية مع ابتعاد عن الوصفيه الاستطرادية..اضافة الى توظيفه الفعل الدرامي الذي ياخذ ابعادا(نفسية واجتماعية..) وتحقيق فعل الكتابة وتجاوز المألوف بتعبيره عن حالة ذاتية مشحونة بشحنة واعية صيرت التعبير الشعري تداولي المعنى لايخلو من حس دلالي عن طريق استثمار التقنيات الفنية الدالة..
فالشاعر ينشغل بإشكاليات الواقع ومقاربة اليومي فيتفاعل والتجربة الواقعية بما فيها من انكسارات وخيبات..كونه يشتبك مع بعضها ويقيم علاقاته التفاعلية واليومي ليبني شعريته على التقابل بين عالمين متضادين هما: الذاكرة(المتخيل) والواقع(الموضوع)..
جبت بغداد كثيرا
ولقد شاهدتموني في جميع الامكنة
غير اني كنت كمّاة غاز حذرة
اذ اخاف الكشف عن وجهي لكم
واصفّي عبرها هذا الهواء البشري
ثم اسري ملكا.. في وجه ضفدع /ص86
فالشاعر يقتنص اللحظة باستخدام اسلوب التصوير السريع لتحقيق مشهدية متفردة بدراميتها الحركية التي تنفذ الى اعماق الذات للكشف عن دواخلها بما امتلكت من ايحاء لفظي وتكثيف جملي لخلق شكل من اشكال الحداثة التي تحالفت والتحولات الفكرية والفنية والمؤثرات الخارجية لخلق عوالمه المسايرة للعصر..وهو يعبر عن احساس شعورياومشهد وامض..مقتصد بألفاظه وموجز بعباراته..متفرد بخصوصيته التركيبية مع ايحاء وتفرد في الايقاع والصورة المنبثقة من لغة رامزة وفكرة منبعثة من بين ثناياه..فضلا عن احتشاء الذات المنتجة داخل عوالم النص وتراكيبه..لذا كانت حركتها الداخلية حضورا فاعلا يفوق حركتها الخارجية باعتماد لغة ادراكية تخاطب الفكر قبل العاطفة..فيتماهى معها بتدفق وجداني منبعث من دائرة الوعي الشعري المؤطر لعوالمه الصورية ودلالاته الموحية بتقنيات فنية شكلتها مجموعة من المهيمنات داخل بنية النص تجسدت في الالفاظ المكانية(راس الحواش/عكد النصارى/التسابيل..)..للكشف عن الانتماء البيئي المكاني.. اضافة الى استخدام تقنية التقطيع والتشظي الكلمي البصري( بـ .. ع.. يـ .. د) الذي يكشف عن دواخل الذات النفسي..ويسهم في تعطيل القدرة التواصلية للغة..
طالبوني بقصيدة
ما الذي نكتبه عن غربة الروح؟
اقترحت الاصدقاء
ـ أيهم؟
ـ لا تحرجوني..
بعضهم في موقع الجرذ
وبعض آخر في موقع الخنزير
ـ شخص واحد في موقع الضبع ـ
وبعض قنفذ الروح احترازا او عصابا
والبقايا..زعماء ص5 ـ ص6
فالنص يقوم على تقنيات فنية لتشكيل بنيته النصية.. يأتي في مقدمتها تقنية السرد التي تعد عاملا جاذبا..وتقنية المفارقة الاسلوبية الادهاشية المستفزة..فضلا عن انه يوظف سيميائية التنقيط التي تحيل الى علامة من علامات الترقيم(دلالة الحذف) التي تشكل(نصا صامتا تتعطل فيه دلالة القول)..والتي تضفي بعدا تشكيليا وتفتح باب التأويل فتستدعي المتلقي لفك مغاليق النص واسهامه في ملأ بياضاته.. اضافة الى تأثيث فضاءاته بتلاحق الصور القابضة على لحظة الانفعال الشعري مما يمكنه الانفتاح على تقنيات السرد الشعري البصري(المشهدي) الذي يتطلب حضور المكان الحاضن للفعل الشعري ..مع توظيف التعابير البلاغية (المجاز والاستعارة والتشبيه..) والرمز الذي هو (اداة فكرية للتعبير عن قيم غامضة..لغرض تصعيد التكنيك الشعري)..اذ فيه ترتفع التجربة الشعرية الى حالة من الشمول. والصورة فيه تتحول الى رؤيا..اضافة الى اضفائه عمقا فكريا وبعدا جماليا..
ان تقطع جسرا
او تمشي في شارع
يتعين ان تأخذ ترخيصا من شرطي ما
وانا يا ولدي
عربنجي منذ زمان الترك
اعرف بغداد كظاهر يدي
واداري نص القانون
فاحذر في توريطي في الطرق الممنوعة/ ص43
فالنص تقوم على مجموعة من العتبات التي تقدم نفسها بفقرات تقتسم النص الى مجموعات دلالية متكافئة وهي تسبح في بنيتين اساسيتين/اولهما البنية السردية الشعرية المؤثثة بالتداعيات التي يضخها زمن خارج الذاكرة..وثانيهما البنية المعرفية..المتميزة بتراكم الصفات التي اسهمت في الكشف عن توتر نفسي منبثق من موقف انفعالي متكئ على حقول دلالية قائمة على ثنائيات ضدية بتكثيف العبارة وعمق المعنى..مع جنوح الى التركيز والايجاز للتعبير عن اللحظة الانفعالية والحالة النفسية باسترسال مختوم بضربة اسلوبية مفاجئة.. اضافة الى ان الشاعر يوظف الفنون الحسية والبصرية والمكانية لخلق عوالمه الشعرية..
وبذلك قدم الشاعر نصوصا تمتلك وعيا داخليا مع حضور اجتماعي سردي يتمثل في عطاءات روحية بنمو نفسي مأزوم يكشف عن دقة متناهية في الحس وعاطفة ملتهبة واندماج مع الطبيعة بقدرة تصويرية للأشياء من الداخل..لذا فخطاب الشاعر خطاب الذات ومناخاتها للتعويض عن الغربة التي يحس بها ومن ثم ايجاد حالة من التوازن بينه والعالم المحيط به.. فكانت رؤيته الشعرية تتصل بطبيعة نفسه وتكوينه الفكري والروحي وظروف حياته والواقع.. باعتمادها الوحدة والكثافة الغنائية التي تعتمد ضمير المتكلم الذي يميزها عن السرد المكثف والتوهج وانزياح لغتها عن المألوف مع وجود الايقاع المنبعث من بين ثنايا الالفاظ والعاطفة…

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة