في روايته الصادرة حديثا عن دار( الآن ناشرون وموزعون) الاردنية، يقدم زهير كريم نصا سرديا ينطوي على حكاية أخرى عن الحرب والخوف، لكنها أيضا سردية عن الوعي بالذات، عن تلك الإشارات التي تجعل من العالم أكثر وضوحا. فبطل الرواية( يوسف) يكتشف زيف الصورة التي كان منغمسا في جمالياتها، بالقدر الذي تظهر له الطبقات المعتمة المأساوية، يحدث ذلك في لحظة الصدمة، والتي تحيله الى ذاته الغائية التي يسقط عليها ضوء الوعي، فيعيد ترتيب فكرته عن العالم، الفن والسياسة والنسق الاجتماعي وايضا عن الحب الذي يجده مثل ماسة ثمينة في (نارفين)، لكن الحكاية لم تنته، كان عليه أن يكتشف نفسه أولا، ولا يتحقق هذا الكشف الى في رحلة اغتراب طويلة وصعبة، يعود بعدها ليجد أن كل شيء قد تغير، وأنه في النهاية أن الخسارات هي مكاسب في وجهها الآخر. يقول الراوي في مقطع من النص:
وفي صباح الفاجعة الذي كان عاديا كما قلت لكم، كان يوسف قد القى نظرة خاطفة عند هبوطه من غرفته على السماء، انها زرقاء صافية تماما، ومن النافذة، لم يكن مشهدا مؤثرا بالنسبة له تساقط اوراق الشجرة التي في الفسحة الخلفية بجانب السور. الهدوء يغمر الدار، ثم سمع رنين التلفون المستقرعلى طاولة في الصالة المغمورة بضوء الشمس. كانت الموسيقى تنبعث من الطابق الثاني حيث تعودت أمه سماعها باعتبارها دليلا على هبوطه لتناول الإفطار. وفي اللحظة التي أعلنت فيه صفارة الإنذار انتهاء الغارة الجوية أو بدايتها، كان قد رفع سماعة الهاتف منهياً هذا التداخل بين صوت الصفارة والرنين: نعم. قالها ولم تمر في رأسه أبداً، فكرة أن الفاجعة تجيء غالبا في الوقت الذي يكون فيه كل شيء على ما يرام، وان الحياة ليست خريطة مضمونة، يمكن السير على خطوطها حتى النهاية بسلام. ومرت لحظة عصيبة لا يعرف كم كان أمدها، سقطت خلالها من يده السماعة بطريقة تبدو وكأنها لقطة في مشهد من فلم قديم، لكنها سقطت فعلا بتلك الطريقة التي يبدو وصفها للقارئ مبتذلا لكثرة تكراره. وأمه التي كانت على باب المطبخ رصدت هذه الحركة الغامضة المقلقة، دقّ قلبها بعنف، وقلب الأم يدقَ لأنه يحدس، والحدس جوهر المعرفة المباشرة التي لا تحتاج الى وسيط، لا الى مختبر، لا حكماء ولا تجربة، قلب الأم يدق لأنه يسمع عندما تتكسر الأشياء خلف الحجب، وهو يرى التصدع غير المرئي الذي يحصل للأبناء، ويحدد ببوصلته العاطفية التخوم البعيدة لمشهد الانهيار الذي يصيب كينونتهم.
.
*عن موقع الكتابة