صباح محسن جاسم
يتلوّى كأفعى بمحاذاة النهر، يحنو ذيلها المتماسك على « رقبة» جسر المدينة العتيد من ثمّ يتماوج جسدها الرشيق بحراشف تتناغم في تقلصها وانبساطها متعاشقة فيندفع جسمها اللين عبر بسطات دجاج ابيض الريش ودكان بيع الأحذية البلاستيكية السود وحفّايات النساء الملونة . يميناً دكاكين البزّازين تقابلها طشوت تفيض باسماك راقصة ، ثم العم حسين بليمونه الرائق الصفرة واحمر واصفر التفاح والرمان، فيما تداري ام علي انواع ما تعرض من تمور سيّما الخضراوي منها والخستاوي ورطب الزهدي العسلي البارد بناعم الملمس والمذاق الشَهِيّ.
«حميّد « صاحب الخضار على عادته يهذي بآلية لا يملّها مروّجا لخضاره، فيضم السين واللام في (سُلُق)، عدا العم ابو كامل وقد وكّر كطائر حذو الجامع القديم للمدينة مشمرا ذيلي ياشماغه الى خلف رقبته ممعناً النظر الى نهر الفرات في صفنات طويلة خلف ما افترشه من خضار الفلفل الأحمر والزاهي الخضرة واسود باذنجانه العراقي من دون أن يعر اهتماماً لغمز جزار يحاذيه ملوّحا بفأس لامعة النصل يمازح بها جاره المتقاعد من خدمة الجيش وحكاية قديمة يُلزِم على سماعها مسامع زبون اقتعد ليختار حبات من خيار ناعس حالم. حكاية غالبا ما يقصها للزبون نفسه بشأن ضلوعه بحريق مخازن سرية الجند، فكان ضحية تدبير ضابط الإعاشة المخضرم لتمرير مفسدة انطلت على الكثيرين.
المنفذ الوحيد لسوق الأقمشة وسوق بيع الحلويات بالجملة يوصل ما بين مساري السوق الشعبي الكبير، فيتنفّس بدرجاته المرصوفة بالطوب الأصفر صوب النهر عابّا من نسيمه الهاب داخل مسارب السوق عبر رحم كنيس لليهود اتخذ منه الجزارون منافذَ لعرض ما يجزرون من لحوم البقر والأباعِر فتتلاحم دكاكينهم مع باعة السمك.
على مرمى بطيخة يتناهى صوت «جاسم» البقال خلل لغط الباعة فيما يروّج لبضاعته بصوته الجهوري. وإذ خبر زبائن السوق صياحَه ، لم تفتْهم اشارتُه إلى النوعية التي شد ما ينجذب اليها الزبون من زرع محلي عراقي، فإلى ملفوفه الخرافي وشجر الكوسا الخرافي وخياره ورمانه.. حتى ان جاره ابا سجاد الذي تجاوز السبعين عاماً صار يروّج لبضاعته على غرار ما ينادي به ( جاسم )، « لوبياء خرافية»، « قثاء خرافي « ، « ثوم خرافي».
ما ان تقترب الشمس من السمت متطفلة بفضول الى ما تبقى من معروض خضار، يتذاكى الباعة في اغواء المتخلفين من الزبائن ضحى نهار تقسو شمسه بقبلاتها حتى ينبري « جاسم» منادياً بصوته الجهوري غير آبه بمن يتفحّص ما بقي لديه من بضاعة! وإن اسقط في يده يروّج لما تبقى فيواصل من بين ضحكة فاض بها وجهه ،ناهضا من مكانه مرحّبا بالقادم منادياً كعادته رافعاً بين اصابعه بصلتين وضحكة تكاد تخنقه فيعاود ترديد لازمته : «بصل خرافي»!
اقعى الأثنان يتضاحكان، حتى اختلط الأمر على ابي سجّاد فانفجر يضحك هو الآخر ولما يعد محذراً الأثنين الغارقين في ضحكهما من انهما إن بقيا على ذلك الحال انما سيتلفان كُدْسَ البصل الخرافي!