حاوره: سلام مكي
اسمح لي – بدءًا – أتوجه بجزيل الشكر لجريدة الصباح الجديد الغراء ولك يا صديقي العزيز سلام مكي على اتاحتكما لي هذه الفرصة الجميلة للخروج من ( الإقامة الجبرية المنزلية ) بسجاننا العالمي ( كورونا ) .. ودعني أنتهز فرصة اطلاق السراح لأطلق العنان لما أريد قوله في إجابتي عن سؤالك المهم ، فأقول : إن قصيدة النثر _ حسب تعريفها في المعجم الأدبي – شكل شعري تحرر من قيود النظم ، يتولد الإيقاع فيه عن طريق الإفادة من إمكانات اللغة .. إنها آخر التحولات الحداثية في الشعر العربي .. إذا كانت قصيدة التفعيلة قد كسرت تراتبية الوزن فإن قصيدة النثر تخلصت من عسكرته وقافيته وتحررت من الاشتراطات الإيقاعية القانونية ، ولكن هل تحررت فعلًا ؟ أظن أن التحرر العربي ، ومنه الشعر ، كُتِب عليه ألّا يكون كاملًا فمن تحرر من قيد تلاقفه قيد آخر ! .. و هل كل القيود سلبية ؟ لك أن تتخيل أن بلدًا تعود أن يكون وافديه من الشخصيات الرفيعة وحافظ على نقاء ضيوفه عبر قانون ( الفيزا ) ثم رفعها فجأة فدخل كل من يحمل جوازا شرعيا إلى تلك البلاد : أتظن أنها تبقى محافظة على كاريزما وافديها ؟! … علينا ألا نقع باللوم على إلغاء تأشيرة الوزن فالشعر هو الشعر بأي شكل كان، وأرى أن قصيدة النثر قد استبيحت مرات عدة : من السلطة حين جعلتها بمصاف المدح العمودي ومن تسرب الأنساق القديمة إلى بعض شعرائها ومن الهاوين للشعر وما هم بشعراء، وما هو جدير بالملاحظة، لا أعني أن الوزن قيد أو إطار يسيّج اللغة ، على العكس تماما : إنه بنية نصية لغوية تتفاعل مع المكونات النصية الأخرى في خلق الجمالية الشعرية.. ولكن من طبيعة الحياة الاستمرار ومن طبيعة القوانين الاستمرار معها وفق إيقاعها، فما عادت الصحراء فضاء الشاعر وما عاد الشاعر بحاجة إلى أن يستأجر جملًا لتنقله وتجواله .. تغير بنية الحياة ونظامها يدعو إلى تغير قوانينها ، وما كان الوزن إلا اشتراطًا جماليا فرضه الوعي الجمالي السائد والمشروط في البنية المجتمعية.. وحين نتحدث عن حداثة علينا أن نتحدث عن ( اشتراطاتها ) وحين نتحدث عن قصيدة النثر علينا أن نتحدث عن ( جمالياتها أولًا )
__ أتسألني عن الاتهامات الموجهة إلى شعراء قصيدة النثر بالفقر المعرفي بالأوزان؟ سيجيبك أدونيس قبل كل شيء حين سئل السؤال نفسه وعن الماغوط تحديدًا : فقال محمد الماغوط أعلمنا بالعروض !! ولك أن تؤّول قوله ولغز إجابته ، ونازك الملائكة، وهي من بشرت بحداثة القصيدة، فقد اتهمت قصيدة النثر بأنها ( بدعة غربية ) واستهجنت مجلة شعر، وإنهم ( أساءوا) استعمال مصطلحها ( الشعر الحر ) .. ولعلك تسمح لي بالقول أن المتحمسين لقصيدة النثر ، بعضهم أساء لها في تصوراته النقدية أكثر مما دافع عنها حين ظن بأنها ( كتابية مقروءة ) والعمود ( شفاهي مسموع ) فمَنْ ذا الذي حدد قوانينها الكتابية ؟ وأعرافها الجمالية .. أعيد عليك قولي السابق : الشعر هو الشعر هو اللغة هو الصورة هو المحايلة اللغوية والمفارقات والانزياحات غير المحتاجة إلى وصايا المعلم، نعم طعّم الشاعر لغته ببنيات سيميائية وتشكيلية لا يمكن تحقيق حضورها الشفاهي وهي جزء من بنية النص ولكن تبقى اللغة هي سيدة الشعر.. نرتل جدارية درويش من دون أن نشير إلى رسومات القبر وتسحرنا مفارقات كاظم الحجاج من دون أن ننتبه إلى تقطيعها الكتابي .. لا أريد أن أتعبك برصد المواقف الاتهامية ولكن أسطيع أن أجزم أن كل حركة تجديدية لم تأخذ ( شرعيتها ) من ( السلطة ) فإنها تواجه بالإتهامات التآمرية!!.. وعلى ذكر حسين مردان ، فقد مال إلى هذا الأسلوب الشعري حتى أنه سماه تسمية خاصة أثارت إعجاب كبار النقاد ومنهم علي جواد الطاهر فقد أسماها ( النثر المركز ) نعم النثر المركز وكأنه حل وسيطا _ أعني حسين مردان _ بين المتعصبين للعمود والمتعصبين للنثر .. أما كتابات فاضل العزاوي فهي مهمة جدا في بلورة قصيدة النثر وكذلك جماعة كركوك التي خلخلت المستقر والثابت في الأدب العراقي .. وحقيقة لست مؤمنا بقولك ( شعراء الحداثة الثانية ) لأننا _ أصلا _ لم نمسك بتلابيب الحداثة الأولى أو الحداثة بشكل عام حتى نستطيع أن نشخص ثمة حداثة ثانية !! عموما هي شاعت في لحظة آيديولوجية تبحث عن تفرد نقدي ينتشلها من أبوة آيديولوجية مخالفه لها أو معارضه ..
_ هي ليست مراجعة بقدر ما تكون ( قراءة واعية ) ومتحررة من القيود القسرية والتفسيرية .. فما الذي نراجعه ؟ أليست ( قصيدة التفعيلة ) تمثل منطقة التحول الكبير في الشعر العربي ؟ وهو تحول أخذ من المثال الأب ( قصيدة العمود ) مرجعًا يشخص التحول ، بمعنى هي قصيدة ولدت من أب كبير ( الوزن ) الذي منح صفاته للأبن ( التفعيلة ) ثم جاءت قصيدة النثر لتعلن براءتها ( العروضية ) من الأب وابنه ومع ذلك ورثت من الأب العمودي صفات أخرى.. نعم ياسيدي نحن بحاجة إلى قراءة واعية تنطلق من مرجعيات مختلفة ومغايرة للأنساق النقدية الثابتة لأن الحداثة ليست تفاوضا وتوافقا وعقدًا للصفقات مع الثابت والموروث بل هي رؤية ثورية شمولية تنظر إلى الحياة والإنسان والعالم نظرة كونية ووجودية متفردة ، أنها ليست لاغية للقديم بالمرة بقدر ما هي متوجهة لكل مدونة تنتصر للإنسان بوصفه مركز ثقل الحياة وبؤرة النظام الكوني .. وبكل صراحة أقول : لا يمكن أن نثق في فضاء حداثي نقي بظل هيمنة لأنساق دينية وقبلية وآيديولوجية متسلطة على رقابه .. لا حداثة إلا في ظل مجتمع مدني يحكمه ( الإنسان / العقل ) وليس ( السماء / الأسطورة ) .. الحداثة ليست مطلبًا ولا تمنيًا ولا طموحًا ، إنها واقع معاش وملموس ومن هذا المنطلق فإن الشعر لا يكسب حداثته إلا في ظل هيمنة الإنسان الفرد وحريته المتخلصة من قيود المقدس .. ولك أن تتخيل مدى الدراسات النقدية ومشاريعها الكبرى التي روجت للحداثة الشعرية العربية في ظل ماكنة السلطة الإعلامية ؟! .. ومدى احتكارها للحداثة بصورة انتقائية تعضد من نموها السلطوي.
_ وما تقصده بالجيل ؟ إن كنت مؤمنًا بالتراتبية العشرية التي انطلقت من العدد الستيني ووصلت إلى نهاية القرن العشرين فإنها – والله – لقسمة تراتبية ضيزى ‘ فليس من المعقول أن يكون التجييل ضمن اشتراطات طبقات ابن سلام الجمحي المنظمة برباعيته المشهورة .. وهذا لا يعني أن مصطلح الستيني بدعة زمنية، لأنه تحول عالمي قبل أن يكون محليا .. ومنه العالم العربي فتلك مصر خلقت جيلا روائيا ستينيا حقق طفرات في السرد العربي وهذا هو العراق أصبح رائدا للشعر العربي الحديث وحين انبرى الستينيون كانت الثقافة العراقية في أحلى أيامها : حيث المجلات الأدبية الرصينة وتسابق الأدباء نحو النشر والتأليف ، وظهور الجماعات الأدبية وكذلك الطبقة النقدية الأكاديمية وكثرة الحديث عن الأدب الأوربي والوجودية وبودلير ..ولكن حين انشبت السلطة البعثية أظفارها على جسد الثقافة العراقية غابت التنوعات والصراعات الثقافية وانصهرت في بوتقة السلطة فأصبح الشعر مرهونا بقدر ولائه لها ، ولعلها من أخطر المراحل التي مر بها المثقف العراقي وأشدها امتحانا لمبدئيته وموقفه منها..
_ في حقيقة الأمر أرى أن فكرة (التجييل الزمني ) التي رسخت في النقد العراقي المعاصر ما هي إلا نتاج من الرؤية الريادية للأدب الحديث ، وصراعات آيديولوجية حاولت الطبقة المهيمنة أن تخلق مركزية تغيب التويعات الأدبية المستقلة عنها ، ومن ثم فهي نظرة إلى الثقافة برؤية مركزية تحكمها أنساق ثابتة بأسلوب زمني تعاقبي شكلي ، إذ لا تحمل المسميات العشرية اللاحقة تحولات أسلوبية وثقافية كبيرة بحيث ترقى إلى مستوى ( الجيل ) وأرى أن غياب التسلسل الزمني سببه غياب المركزية الدكتاتورية وهيمنة الاحتلال وتشظي الهوية الوطنية الموحدة فظهرت هويات فرعية تحاول أن تكتسب خصوصية بطريقة نقابية لا ثقافية أو جمالية ، فما عادت بغداد هي المركز الثقافي الكبير الذي تضرب إليه أكباد الإبل.. وضعفت المدن الكبرى أيام المرحلة السابقة فظهرت فضاءات ثقافية تتكئ على مرجعيات موغلة في القدم كانتماء ثقافي فالأديب من البصرة يتباهى ب( البصرة ) وتاريخها أكثر من العراق وابن ذي قار يصر على أنها ( مسقط رأس الكون ) وأبناء الحلة يروجون بأن مدينتهم عاصمة المدنية في العراق وادباء ديالى يذكروننا بتامرا وميسان أصبحت ( ميشا )… وهكذا تحولت الثقافة من المركزية إلى التعددية بفعل التعدد الهوياتي للوطن ، وهذا دليل على ( أكذوبة ) الأجيال الشعرية التعاقبية ..
_ لا أظن أن الشاعر بحاجة إلى غرف تجييلية تأويه .. الشاعر هو من يحدد منطقته عبر نتاجه ورؤيته وثقافته .. الغرف الجاهزة تجعل من الشاعر موظفًا في دائرة التجنيد النقدية ، التي تمنحه بطاقة انتمائه حسب دفاتر النفوس المطبعية المثبتة على لوحة غلاف المجموعة الشعرية ..ذكرتني في حادثة لطيفة : تشاجر شاعران أمامي في أيهما أسبق ( جيليا !) فالأول يتهم الثاني بأنه سبعيني وهو ستيني والثاني يتهم الأول بأنه سبعيني وهو ستيني !! تصور أنهما احتكما إلى تأريخ النشر!! بالله عليك أيمكن أن يكون التقويم الزمني إطارًا للجيل الشعري ؟! ودعني استشهد لحضرتك بجواب الشاعر كاظم الحجاج عن السؤال نفسه حين حاورته في مجلة الأديب العراقي فقال (( سنة ميلاد بعض أجدادنا ، ومسقط رؤوسهم الجغرافي هو الذي أعطى بعض المحظوظين منهم لقب ( صحابيّ جليل!).. هؤلاء سكنوا في قرية يثرب أو في أم القرى مكة.. ولقد التقى بعضهم بالنبيّ (ص) وبعضهم شتمه، ثم اعتذر منه ، بعدما استوى نبيًّا !.. كلّ أولئك الأجداد الأخيار أو الأجلاف قد صاروا ( صحابة أجلاء ) .. وعلينا ، لحد اليوم أن نحترمهم كلهم ، بل البعض يقدّسهم كلهم .. ولهذا فأنا متوجّس من مصادفات سنة الميلاد ومتوجس من جماعة الأجيال)).. وهذا لم يعد موجودا .. الشاعر – الان – عار من الجلباب التجييلي ويكتب بأسلوب فردي ‘ إذ إن الخطاب النقدي فقد سلطته وبخاصة بعد ( موت الناقد ) بمعول النقد الثقافي ، وهو لا يعدو أن يكون ( مفسرًا ) للنص الشعري أكثر مما هو موجهًا للتجربة الشعرية ..
__ الكتابة إن لم تكن مشروعًا لا يعوّل عليها ، ويمكن أن أدعي أنني بصدد تأليف كتاب جديد نابع من الأفكار التي أجسدها في مقالاتي المنشورة في الصحف او على مواقع التواصل الاجتماعي ، وهو مشروع مبني على قراءة ثقافية للمنجز الشعري العراقي الحديث .. أنا متأكد بأنه سيثير أسئلة أكثر مما يجيب عنها ! وأعتقد أن مهمة النقد _ الآن _ هي إثارة السؤال ..