من نوع الهموم التي تشغلنا يمكن فك طلاسم ما انحدرنا اليه من بؤس وتشرذم وهوان، ومن اصغرها شأناً نلج الى تفاصيل تغنينا عن الكثير من الاسهالات النظرية وخريط الافندية، المتخصص بدحرجتنا الى متاهات لا يدرك نهاياتها حتى الراسخون في مثل هذه الهموم والعلوم. على سبيل المثال لا الحصر لناخذ ما يشغل امانة بغداد وما اعلنت عنه مؤخراً؛ “في مباشرتها باستخدام تجريبي لأغطية منهولات ومشبكات الامطار ضد السرقة… أغطية مصنوعة من الحديد وتحتوي على اقفال ذاتي، وبالتالي يصعب سرقتها، وغير مكلفة مقارنة بالحالية المصنوعة من الآهين، والتي كانت تسرق من قبل ضعاف النفوس، مما سبب اضرارا بالممتلكات العامة وخطرا على سلامة المواطنين”. قد يبدو أمر سرقة أغطية المنهولات سخيفا ولا قيمة له في بلد تشفط فيه موازناته الخيالية، وسط سيل كثيف من قذائف الفضيلة والتقوى، لكن الامر على غير ذلك تماماً، عندما نتمعن قليلا في مغزى مثل ذلك السلوك والممارسات وابعاده وجذوره، بوصفه حلقة من منظومة ولدت وتكاملت لحزمة من الاسباب التاريخية والاجتماعية والقيمية التي عرفها العراق في العقود الأخيرة.
صحيح ان القيمة المادية لاغطية المنهولات ضئيلة جدا مقارنة وما تستبيحه حيتان السلطة وما يحف بها من جحافل الحبربش، الا انها تحمل من الشحنات والمعاني الشيء الكثير. عندما يتفشى وباء الفرهدة واللصوصية الى ما يمثل قاعدة الهرم الاجتماعي، أي الجسم الشعبي الواسع، وحيث تتعرى المنهولات في وضح النهار؛ فان حجم مصيبتنا يكون أعظم بكثير مما تنسجه مخيلات البعض ممن أدمن على ركوب موجات الاصلاح والتغيير وما يرافقها من عناوين براقة. انها اشارة واضحة لما انحدر اليه المجتمع (افرادا وجماعات) تدعونا قبل كل شيء الى وعي تفاصيل ما حل بنا من خراب ممنهج لم ينج منه البشر والحجر والشجر. خراب واسع وعميق تسلل الى تفاصيل حياتنا، حقيقة لا يختلف عليها غالبية العراقيين، لكنهم يختلفون ويتشرذمون في وعي سبل معالجة ذلك، وكان لسكراب الانتلجينسيا واشباه المثقفين دورا لا يحسد عليه في ذلك الضياع.
ان مرور ما يقارب العقدين على زوال النظام الذي اسس لكل ذلك الحضيض الذي انحدرنا اليه؛ من دون ظهور اية علامات جدية على تعافي المجتمع ومؤسسات الدولة، يؤكد ما حملته الينا اغطية المنهولات المسروقة وغيرها من أشكال اللصوصية والفرهدة من اشارات ودلالات. مصيبتنا تكمن في تورط قطاعات واسعة بوباء الفساد من مختلف الاشكال والذرائع والاحجام، مثل هذه الورطة “الشعبية” تقف بالمرصاد لأية زحزحات جدية بالانعطاف بعيدا عن ذلك البلاء. لهذا تشكل الحلول الثوروية ومحاولات سلق المراحل وعدم الالتفات لكل تلك التفاصيل؛ خطرا لا يقل عن منهج اللصوصية والفساد. النظام المباد مارس عملية التسقيط القيمي والاخلاقي بشكل ممنهج، فمن دون منتسب متورط بعمليات القتل أو كتابة التقارير على الآخرين ولا يستثني ذلك اهله وجيرانه وزملاءه في العمل؛ لا يمكن الوثوق به. هكذا سارت الامور لعقود، ومن تلقف اسلاب ذلك النظام، استثمر بشكل واسع في ذلك الارث الموبوء، لذلك وجدت طبقة وشبكة مصالح وقيم، تحرص على بقاء وتمدد ذلك الوباء، الذي وصلت مجساته لاغطية المنهولات..!
جمال جصاني