سوسن ناجي
لقد تغيرت الأزمنة والمعايير، ولم يعد هناك مجال -ونحن في مطلع القرن الحادي والعشرين- للحديث أو الشكوى من صمت المرأة! فقد اخترقت المرأة مجال الأدب، وأصبح رواج أسماء الكاتبات أمراً عادياً، وانطوت صفحة طويلة من الثقافة العربية كانت “تتحدث عن المرأة بعداء واستهانة”، في صورة أبرزها منع النساء من تعلم الكتابة”! وهو القانون الذي وضعه “خير الدين نعمان بن أبي ثناء” في كتابه “الإصابة في منع النساء من الكتابة” ومن قبله “الجاحظ”، والذي رأى أن “الكتابة للرجل هي شرف وحق، والكتابة للمرأة خطر، لأنها وسيلة جنسية تفتح علاقات العشق والرفث.”
إن مسار الحديث –إذن- قد تغير بتغير الزمن، وبديلاً عن الحديث عن ثقافة تعمل على إلزام المرأة الصمت أصبح الحديث عن ثقافة تحتفي بكتابات المرأة، والقيمة التي تعود على المجتمع من استنطاق نصوصها، والاقتراب من عالمها بتفكيك كتاباتها لقراءة ما سكتت عنه، وما خافت فلم تُقله؟
وإذا كانت الثقافة قد تغيرت، ومعها تغيرت مفاهيم الأدب، فكان لا بد وأن تتغير معها الصورة التقليدية للناقد؟ فبعد أن كانت هذه الصورة تُعنى باكتشاف المؤلف من وراء السطور غدت مجدداً تُعنى بأن يلتحف -الناقد- عباءة المرتحل في أفق المعنى. وهو أمر يدفعه إلى معاودة الكتابة في كل مدخل ومخرج من مخارج النص. وبهذا يتحول النقد -هو الآخر- إلى ممارسة من ممارسات الكتابة.
لذا كانت القراءة لتجربة المرأة/الكاتبة الشخصية في الأدب من حيث هي حضور هي محورنا نقدياً بهدف قراءة المناطق المعتمة من كتابتها نصياً، وما لم تفصح عنه الكتابة -بوعي أو دون وعي- كمنطق أولي من منطلقات القراءة النقدية والتي تفيد من تفكيكية دريدا أو مفاهيمه عن الاختلاف والإرجاء لعملية توليد المعنى، ومن خلال جدله المستمر مع ثنائية الحضور/الغياب؛ حتى تتسنى قراءة دواعي خوف المرأة/غيابها، صمتها أو هروبها في النص ومن النص كذات مستلبة، أو وعي يعاني ثمة اضطهاد.
وتبقى إشكالية دخول المرأة المتأخر إلى ساحة الكتابة أكبر علامة استفهام تعكس معنى الخوف وقد بلغ هذا التأخر قروناً، الأمر الذي انعكس على لغتها وفكرها، وحواسها وأسلوبها، غير أنها “إذا كانت بدأت مجدداً تتعلم وتعمل وتعيش في ظروف تكاد تشبه الظروف التي يعيش فيها الفتى.. وقد تخلصت من ذلك الحرج الذي كانت تعانيه جدتها، فليس معنى ذلك أن لقاءها مع الرجل قد خلا من العقد الكبيرة التي تؤثر في العلاقات بين الرجل والمرأة دائماً، أو خلا من آثار الخطر الطويل الذي يجعل العلاقة بين الجنسين مزيجاً من التهور والفزع”. وهو ملمح خوف ترك آثاره على الكتابة النسائية شكلاً وموضوعاً. ثم يأتي انعدام النموذج الرائد من الكاتبات كعلامة خوف أخرى، ومؤشر إلى مفترق الطرق، حيث بدأت المرأة تكتب، ولكن مع انعدام النموذج أخذت الكاتبات تحتذي -خاصة في مرحلة الريادة- بكتابات الرجل -شكلاً وموضوعاً- ومن ثم وجدت المرأة/الكاتبة ذاتها تكرس مقولات الرجل، وتعيد إنتاجها.
وإشكالية صراع المرأة/الكاتبة، وهي مازالت في مفترق الطرق هو كونها تبحث عن نموذج أنثوي لكي تجعل لوجودها الأدبي شرعية، لهذا تشعر بالقلق أو لنقل بالعزلة “عن أسلافها الذكور، مع حاجتها إلى أسلاف من الأخوات أو الجدات، ثم إنها بحاجة إلى قارئات بمقدار خوفها من عداء القراء الذكور”، كل هذا قد يبرر خوفها من التعبير/الكتابة في إطار مناخ أبوي، أضف إلى ذلك قلقها الرافض أو عدم ملاءمة رؤيتها كتابتها الأنثوية للوعي العام في حال مواجهتها هذا المناخ الثقافي، كل تلك المظاهر قد تعرب عن عدم الثقة بالذات أو الإحساس بالدونية وهو ملمح يميز صراع الكاتبة/المرأة من أجل الإعراب عن ذاتها فنياً في تلك المرحلة.
لكن الخوف دفع شريحة أكبر من هؤلاء الكاتبات -خاصة في هذه المرحلة المبكرة- أن يختبئن خلف أسماء مستعارة، والأمثلة على ذلك كثيرة، نقتصر فيها على ذكر اختفاء عائشة عبد الرحمن خلف اسم “بنت الشاطئ”، واختفاء فدوى طوقان خلف اسم “دنانير”، واختفاء ملك حفني ناصف خلف اسم “باحثة البادية.
هكذا بدأ وعي المرأة/الكاتبة بموقعها حين دخلت ساحة الكتابة مجدداً -أو في مقتبل القرن التاسع عشر- ورغم كل المتغيرات الثقافية فإن مشاعر الخوف من الكتابة، لم تتلاشى بعد، إنها مازالت تعي أنها في منافسة سافرة مع الثقافة المُهيمن عليها من قبل الرجل، وأن صمت المرأة من منظور هذه الثقافة هو الامتياز الأنثوي الذي يجب أن تتحلى به المرأة كخلق طبيعي.
وهنا يبدو فعل الكتابة بمثابة العالم الجديد، والوعي الجديد، والمرأة حين تخرج إليهما فهي تخرج من المألوف إلى المجهول، ومن الغفلة إلى السؤال، ومن التسليم إلى الخروج الشرعي من اعتراف الآخر، ومن ثم فهي تواجه التخطيط الاجتماعي، وتقبل التحدي؛ بأنها مختلفة وليست من القوالب المكررة في المجتمع.
فالكتابة إذن فعل يتطلب الشجاعة، والكاتبة إذ تدخل في غمارها فعليها ألا تكون صورة من الآخرين بل يحققها -في الكتابة- أن تكون ذاتها، ومن ثم فعليها أن تتخذ موقفاً لا يتعارض مع الأوضاع السائدة فحسب، وإنما تضمن ذلك الصراع ضد ذاتها، لتحررها من أي تبعية، بهدف الوصول إلى ثمرة الوعي، واكتشاف الذات.
لكن وعي الكاتبة بماهية الأوضاع السائدة، يؤسس فيها ما يمكن أن نسميه “خوف التأليف” وهو قلق يتشكل من خوف معقد واعٍ بعدم ملاءمة شروط تلك الأوضاع مع تلقائيتها/حريتها ومثل هذا القلق يشكل علامة وخصوصية في كتابات المرأة العربية.