جرجيس كوليزادة
العقد الاخير شهد خروج انتفاضات وثورات شعبية عارمة في بلدان العالم العربي ومنطقة الشرق الاوسط، وبدأت اولا بتونس ثم مصر وليبيا وسوريا واليمن والجزائر، وحققت الثورة التونسية اهدافها بمراحل متلاحقة نتيجة وعي وثقافة شعبها واحزابها فحصل استقرار لانتقال السلطة بطريقة سلمية ومدنية وديمقراطية نزيهة تفتقر اليها اغلب دول المنطقة.
وفي مصر حققت الثورة هدفها بتغيير النظام ولكن بشق الصعاب وبتقلبات سياسية مثيرة، ومازال نظام الحكم غير مستقر على وتيرة ديمقراطية لا تقبل الطعن.
وفي ليبيا تمكنت الثورة الشعبية من تغيير النظام ولكن البلد دخل في حرب اهلية مازال الشعب الليبي يدفع ثمنا باهظا مقابل حريته وثورته من ارواح المواطنين المدنيين.
اما في سوريا فقد كادت الثورة الشعبية السلمية الباهرة ان تحقق اهدافها، ولكن بفعل مخططات النظام ومؤامرات اقليمية ودولية حولت الثورة المدنية الطاهرة الى ساحة للمعارك الطاحنة والحروب المجنونة بالوكالات بين منظمات مسلحة ارهابية تابعة للنظام الحاكم في سوريا وتركيا وايران وروسيا، فتلاشت امال الثورة بالتغيير.
وفي اليمن اندلعت ثورة شعبية عارمة ضد الرئيس المقتول علي عبدالله صالح، ولكن بمراحل متلاحقة تحولت الى صراع اقليمي وحرب اهلية، ونتجت عنها ازمات ومآسي انسانية كبيرة، ومازالت الصراعات قائمة والحروب جارية والشعب اليمني يعيش في ويلات وكوارث انسانية كبيرة.
واما في الجزائر فان الثورة والاحتجاجات والتظاهرات تدور في حلقة لا يسمح لها بتجاوز خطوط الجبش الحزائري المسيطر على زمام الامور السياسية والحكومية بالبلد، ومازال الوصع عالقا وغبر محسوم بین الاطراف الحاكمة والجهات الشعبية المحتجة.
وفي الفترة الاخيرة حرى حراك شعبي للحماهير الشعبية السودانية ضد النظام العسكري الحاكم، وتمكنت بتواصلها من تغببر رئيس النظام وتشكيل محلس مشترك لادارة الحكومة بين العسكر والقوى السياسيى المدنية، فحصل بعص الاستقرار واتفاق للوصع السياسي.
وبعد ذلك انطلقت الثورة اللبنانية في بيروت وفي المدن معلنة رفض الثائرين للنظام السياسي السائد في البلد المبني على المحاصصة الطائفية، وقد اثمرت الحراك في بدايته الاولى عن استقالة رئيس الوزراء، ولكن هيكل النظام مازال قائما والتظاهرات مستمرة.
وفي العراق في 25 اكتوبر اندلعت ثورة مدنية سلمية بساحة التحرير وفي المدن الجنوبية الشيعية، وحملت شعارات وطنية كبيرة بمحتواها لصالح تحقيق التغيير والاصلاح في عموم شؤون البلاد، ولكن هذه الانتفاضة الشبابية السلمية جوبهت بنار القناصين ونيران اسلحة القوى والاجهزة الامنية والعسكرية والمليشيوية، فأدت الى سقوط اكثر من 350 شهيد واصابة اكثر من 15 الف مصاب من الثائرين، والحكومة الفاسدة المارقة القائمة برئاسة عادل عبدالمهدي تماطلت في تلبية مطالب المتظاهرين، واستمر العنف والقنص والنيران والرصاص الحي في مجابهة المجموعات الثورية الثائرة، و وزير الدفاع يشير الى وجود طرف ثالث وراء القنص وقتل المتظاهرين، والمظاهرات مازالت تدفع كل يوم قربانها من ارواح الشباب الثائرين في بغداد والمحافظات معا، ولحد الان لم تبدي الحكومة ولا البرلمان ولا المرجعيات الدينية ولا الاحزاب الجدية التامة في تنفيذ مطالب المتظاهرين، وما ينفذ من سيناريو يومي من قبل الحكومة مجرد لعبة مكشوفة لامتصاص زخم الثائرين واللعب على كسب الوقت لارهاق الثورة والدفع بها الى الفشل والابقاء على النظام الجائر الفاسد القائم.
ومن خلال قراءة الاحداث نجد ان اغلب الثورات المنطلقة في المنطقة تقاربت باهداف مشتركة وهي: اسقاط النظام القائم وتامين البديل الصالح لخدمة عموم الشعب، والقضاء على الفساد وتقديم المسؤولين الفاسدين الى المحاكم، وتقديم اصحاب الثروات والممتلكات الكبيرة الى القضاء لاثبات شرعيتها، وضمان تقديم الخدمات الحياتية الاساسية مثل تأمين الماء الصالح للشرب والكهرباء والخدمات البلدية لكافة احياء المدن، وتأمين فرص العمل لكافة الخريجين والشباب العاطلين عن العمل، ومنح السلف لاقامة وانشاء المشاريع الانتاجية والخدمية الصغيرة، وتغيير القوانين المجحفة وبعض المواد الدستورية التي سنت لصالح الفاسقين لغرض الكسب الفاسد والثراء الفاحش، وتأمين الوحدات السكنية للمواطنين، ضمان الدولة بتحقيق اللوائح الدولية والدستورية في مجال حقوق الانسان وضمان حق المواطنة بالحرية والكرامة والعيش الكريم.
ولكن ما حصل فان ردود افعال الانظمة كانت عنيفة وقاتلة ضد المتظاهربن الابرياء، وجائرة ولاحدود لقساوتها وضراوتها، ودائما ما جوبهت الثورات برد سفك الدماء وقتل الابرياء، ودون هوادة ولا اعتبار ولا احترام لحق حرية المواطن بالتظاهر والاحتجاج السلمي، ودون تقدير وتفهم للحقوق الدستورية.
ولهذا مرت الثورات الحالية والسابقة خلال السنوات الماضية بمجابهات دموية صادمة، والنظام الحاكم في اي بلد كان غير مستعد تماما للتفاوض واجراء الحوار المباشر مع الثائرين لتنفيذ وتلبية مطالب الجماهيرية المنتفضة والاذعان لراي الشعب، وبالتوازي ودوما لجأت الانظمة الحاكمة الى استخدام اعنف وسائل للقوة والقتل الماشبر دون اي اعتبار قانوني ومعنوي بان هؤلاء المحتجين مواطنين للنظام بالاساس.
ولهذا اثبتت الثورات ان الهوة واسعة وشاسعة جدا بين الحكومات والمواطنين، وبين الدولة والشعب، وبين النظام السياسي والجماهير، والعلاقة مبنية دائما على اساس القوةة والاطاعة للحاكم، وليس على اساس احترام الحقوق الانسانية والمدنية والدستورية، والدساتير هي اكثر الوثائق المخترقة والمسحوقة دون اعتبار اي مقام لها.
لهذا نجد من الضروري على الامم المتحدة التحرك الجاد لضمان وسائل عملية لحماية الثورات الاحتجاجية المدنية، ومساعدتها في تحقيق التغيير والاصلاح المنشود، وبالرغم انها حريصة وملتزمة بعدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول، لكن الدوافع الانسانية لحماية الشعوب من قمع واضطهاد الانظمة لها تلزم الامم المتحدة التدخل في هذا المجال ولعب دور اممي فعال لانقاذ افراد الشعوب من العنف القاتل للأنظمة، ولهذا الغرض الانساني نتقدم بالاقتراحا التالية لضمانن توفير الحماية الانسانية للثورات الشعبية الثائرة بالوسائل السلمية والمدنية، وهي:
(1) تكليف مجلس الامن لاصدار قرار دولي بالالتزام الكامل لحماية الثورات والاحتجاجات والمظاهرات والانتفاضات السلمية المدنية في اي دلة عضو بالامم المتحدة وموقع على لوائحها ومواثيقها الدولية.
(2) تشكيل مجلس اممي (مثل محلس حقوق الانسان) مرتبط بالجمعة العامة للامم المتحدة او مجلس الامن لرعاية ومراقبة الاحتجاجات المدنية في ارجاء العالم لضمان حقوقهم في التعبير والراي وطرح المطلب المشروع والتظاهر السلمي المدني، ومتابعة مواقفهم وتطوراتهم اللاحقة.
(3) التاكيد على اصدار لائحة دولية من الامم التحدة خاصة بحق التظاهر السلمي المدني وبيان اطرها القانونية والانسانية والتزام كل دولة عضو بالامم المتحدة بالتوقيع عليها وتنفيذها وفق الالتزامات الشرعية الدولية.
(4) التعامل الفوري مع احداث الاحتجاجات المدنية في اي دولة بالعالم من قبل الامم المتحدة ومجلس الامن، وارسال ممثل أممي للدولة المعنية لمتابعة الاحتجاجات ومراقبتها وضمان تطبيق اللوائح الدولية المرعية بحق ضمان حقوق الانسان.
(5) تكليف كل دولة من قبل الامم المتحدة باصدار لائحة خاصة بحقوق المواطنة الدستورية والزام نشرها للمواطنين وادخالها ضمن المناهج الدراسية، وللمعلومات فان اغلب شعوب ودول المنطقة مازالت غير معتادة على لائحة حقوق المواطنة الدستورية.
باختصار هذه المقترحات الاولية لضمان حماية الثورات الشعبية المدنية من قبل الامم المتحدة، لها حاجة ماسة ضرورية لتحديد مصير الانتفاضات السلمية، ولكي لا تقمع من قبل انظمة الدول البوليسية التي تحارب بكل الوسائل الحقوق الشرعية والانسانية والدستورية للمواطنين وخاصة الاصوات السلمية المطالبة بالتغيير والاصلاح، ولهذا وبسبب شدة قمع الانظمة وكثرة الضحايا والقرابين والشهداء والمصابين للثورات الاحتجاجية بالرغم من سلميتها ومدنيتها، لابد من وقفة دولية ومنظماتية عالمية للتعامل الفوري مع الثورات الشعبية الجارية للسيطرة على الموقف وابعاد الثورة من نهاياتها المأساوية والكارثية كما حصلت في ليبيا وسوريا واليمن وغيرها من الدول التي اريقت فيها انهار من الدماء بسبب اجرام السلطة، والثورة العراقية في مقدممة الاحتجاجات الجارية على مستوى احداث العالم بحاجة ماسة الى دعم وموقف أممي ودولي لايصالها الى بر الأمان وتحقيق التغيير والاصلاح، نأمل ان نجد هذا الدعم للعراقيين الثائرين بالقريب العاجل لضرورات انسانية وأممية، مع التمنيات بنجاح كل ثورة شعبية وبالاخص ثـورة الشبـاب العراقي الثائر.
- كاتب وباحث سياسي