العراق : مواجهة التاريخ.. مواجهة الذات

القسم الأول

عصام الخفاجي *

يكبت العراقي (العربي) ذاكرته. يهرب ممّا يعرف إلى ما يتمنّى. تختار الذاكرة المكبوتة جزيئات من الوقائع لكي تشيع اطمئنانا زائفا في صاحبها. يرنو إلى زمان كان فيه الأمن مستتبّا في عهد البعث ويمحو، عبثا، من ذاكرته ثمن ذلك الأمان خشية من الحديث عما يدور في ذهنه أمام ابنه أو أخيه أو أبيه، خشية من أن تؤدي زلّة لسان قد إلى أن يرفع أحد هؤلاء تقريرا الى الجهات الأمنية عنه يودي به. لاحظوا أننا نستعمل تعبير “يرفع”، لا “يكتب”. التقرير موجّه نحو من هو أعلى منّا. يكبت شيخ العشيرة الشيعية ذاكرته ويشيع الكبت بين أفراد عشيرته ويقنعهم بأنهم كانوا ألدّ أعداء نظام البعث وهم الذين لعبوا دورا مهمّا في ذبح أبناء طائفتهم ممن ثاروا على النظام عام 1991. يكبت السنّي ذاكرة طائفية فيهرب إلى حوادث تزاوج بين أبناء طائفته وبين الشيعة ويكبت الشيعي والسنّي ذاكرته عن لوحات صارت تعلّق في صدر غرف جلوس بيوت الشيعة منذ 1980، لوحات أشجار عائلية، خرافية في معظمها بالطبع، “تثبت” الجذور العربية لتلك العائلة وإلا باتوا متّهمين بأن دما فارسيا يجري في عروقهم. يكبت الكردي، أكبر ضحايا نظام البعث ومجازره، ذاكرته فيتظاهر أن عشائر السورجي والهركي والزيباري، التي تلعب دورا مهما في حياة كردستان اليوم، لم تكن عماد “الجاش” (الجحوش): مئة ألف مرتزق كردي (اشتغلت في زمن غابر على توثيق روابطهم العشائرية ومتابعة وثائق الإستخبارات العسكرية عنهم) وقفوا إلى جانب نظام البعث في حربه على أبناء شعبهم.
الذاكرة المكبوتة ذاكرة سامّة. ذاكرة تسمّـم صاحبهـا وتسمّــم رؤيته للعالم، كما تسمّم مجتمعـا يحمـل تلـك السمـوم.
لم تتلّوث طائفتنا أو قوميتنا بالشر. جاء الشر من خارجنا. كنّا ضحايا له، وقاومناه جماعيا. ولمَ كل هذا النبش في التاريخ؟ لأنه، باختصار، نبش في حاضرنا. هو استكمال لمقال سابق على هذا الموقع عن “الشر الذي ينخرنا”. هو أيضا، حديث عمّا ينتظر العراق في الفترة القادمة، إذ ستلعب عصابات الحشد الشعبي دورا في مأسسة الحكم القادم أو انهيار مابه من مؤسسات منخورة.
ثمة بعد خطير لما سبق يعبر ببشاعة عن انعدام الحس بمآسي “الآخرين”. وتعبير “الآخرين” هو نفسه تعبير بشاعة: “أخواننا الأكراد” تعرّضوا لجرائم. “أخواننا الشيعة…”. إسأل عراقيا عاديا: ماهي الأنفال؟ أراهن أن غالبية لن يعرفوا أنها مذبحة أودت بحياة بأكثر من مئة ألف كردي. وليس هذا أخطر ما في الأمر، إن لم يكن ما سبق خطيرا: لقد انعدمت حساسيتنا تجاه الموت والحق في الحياة. انعدمت حساسيتنا ضد التعذيب.
وذلك هو الإنحطاط الأخلاقي الذي زرعته فينا نظم القمع الذي تحدّثت عنه هنه آرنت.
بعد خمس عشرة سنة على سقوط البعث، العراق لا يزال مدمّرا. هل من حاجة لوصف ما يعرف القارئ عن حال العراق: نظام سياسي فاسد، تعددي بوصفه قائما على تعدد أمراء الحرب والسياسة يحكم كل منهم قبضته على إقطاعية تتناسب مع وزن سلاحه وماله وقدرته على شحن غرائز الطائفة والقومية والقبيلة، عراق في آخر سلم الدول التي تعاني من الفساد المالي، عراق بنى تحتية منهارة واقتصاد متهالك لولا النفط، وبطالة وفقر.
أنحن أمام حلقة مفرغة؟ بشاعة تولّد بشاعة، تولّد تقبّلا بالبشاعة؟ كنّا بحاجة إلى صدمة، كصدمة الألماني بعد انهيار النازية. صدمة؟ لكننا واجهنا صدمات، صدمات بشعة. هُزمنا في حرب تحرير الكويت وتحوّل العراق حطاما بسببها. وهُزمنا مع الإحتلال الأميركي عام 2003. لكن الذاكرة المكبوتة لاتقبل توصيفا كهذا: هو احتلال صدّام، لا العراق للكويت، وهي هزيمة له لا للعراق في أعين المعارضة وهي مؤامرة في أعين مؤيديه. وفي النهايةـ، ثمة آخر، لا نحن من ساهم بما لحق بالعراق من مآس.

  • كاتب عراقي

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة