من الشعارات الاكثر رواجاً في الاحتجاجات الاخيرة كان “اريد وطن” وقد اشرنا في مقال سابق الى ضرورة أن يكون بشكل آخر وهو “خرجنا لصناعة وطن” أي الشروع بامتلاك وعي آخر حول هذا المفهوم (الوطن). وعي متخفف من ذلك الاحتياطي الهائل من الكراهة والثارات والاحقاد التي اثقلتنا بها تجارب التاريخ القديم منه والحديث، فمن دون هذا الوعي والثقافة والمعنى الجديد لـ (الوطن) يصبح كل هذا الكم الهائل من الهتافات باسم الثورة والانتفاضة وغير ذلك من المفردات التقويضية، فارغة من المعنى واشبه ما تكون بـ “الدقلة الهوائية”. غير القليل من المسكونين بحلم الثورة والانتفاضة، ومن دون أدنى شعور بالمسؤولية يقفزون على بديهيات مثل هذه المفاهيم ومضامينها القيمية والثقافية، حيث الثورة الفعلية تتجسد في الممارسة والسلوك وذلك الوعي الذي اشرنا اليه، وتجربة 16 عاماً مما يفترض انها مرحلة للعدالة الانتقالية خير شاهد على ذلك، حيث اخفق العراقيون جميعاً (لا لملوم الطبقة الحاكمة وحدها) في مواجهة تحدياتها، والتعاطي مع مضامينها القيمية والثقافية والقانونية العميقة.
لقد حذرنا مبكراً من خطر فقدان الاحتجاجات لسر قوتها وحيويتها (سلميتها) ففيها تتخصب كل الشروط والمناخات المناسبة لنمو وازدهار القيم المضادة لترسانة الدمار الشامل المثقلة بكراهة الآخر المختلف والاحقاد والثارات الصدئة. كما اننا لم نخفي حقيقة عسر وصعوبة مثل ذلك الهدف السامي، لما نعرفه عن الثقافة والقيم الضد وجذورها الممتدة الى اغوار الوعي الجمعي، والتي ولجت الى اطوارا وحشية لا مثيل لها في حقبة “جمهورية الخوف” حيث ما زال فلولها يحلمون باستئناف مآثرهم الوحشية وقادسياتهم وثاراتهم على هذه التضاريس المستباحة. ان كل ذلك الارث والفضلات السامة لم تتقلص بعد زوال النظام المباد وحسب، بل ولجت بهمة قوارض “التغيير” الى اطواراً أشد عتمة والتباساً، وهذا ما يمكن تلمسه في كل تجليات المشهد الراهن، والضاج بكل انواع الاحقاد والكراهة والثارات، وما تكرار تهديدات القتل والسحل والحرق والتدمير من غير القليل من الجماعات والافراد الا دليل واضح على ما يمكن ان تنحط اليه الاوضاع وبشكل لن تتخيله أكثر العقول تشاؤماً وسوداوية.
ان فقدان الاحتجاجات لقيادة واضحة وبرنامج عمل وخطة واقعية لتحقيق المطالب، عبر السبل المجربة ووجود وفد مفاوض لهم مع ممثلي السلطة الحاليين، يعد بمثابة كعب أخيل لها. حيث يسمح هذا الخلل البنيوي بتسلل كل قراصنة المنعطفات اليها، وهذا ما حصل فعلاً في الايام الاخيرة، حيث تسلم الملثمون زمام المبادرة، لترتفع وتيرة الحرائق والاصطدامات والعنف الذي ازهق ارواح المزيد من العراقيين. من دون تبلور زعامات شجاعة ومسؤولة يثق بها الجمهور الواسع من المحتجين، لن نحصد سوى المزيد من الاعمال المتهورة من قبل جميع الاطراف (داخل السلطة الحاكمة وخارجها) والتي لن تفضي في نهاية المطاف الى ما يهدهده المحتجون الحقيقيون في مخيلاتهم أي (صناعة وطن) بل الى تقويض ما تبقى من هذا الوطن المنكوب بموروثات وفضلات الدمار الشامل التي اشرنا اليها. ان كبح جماح هذه النزعات والخطابات التدميرية ما زال اليوم ممكناً، لكن مثل هذه الامكانية لن تتوفر غداً، علينا أن نتفق جميعاً على ما ادركته الامم الحرة وهي؛ ان الاوطان لا يصنعها الملثمون، بل الآباء المؤسسون..
جمال جصاني