سعد القصاب
آثر النحاتون الثلاثة، رضا فرحان (1955)، ونجم القيسي (1961)، وطه وهيب (1963)، اقامة معرضهم النحتي المشترك ليوم واحد، في السادس من أيلول، في قاعة “حوار” في بغداد، قبل عرضه في “Espace Ie Scribe – 1’Harmattan” في باريس من 12 إلى 16 ايلول، تحت تسمية “ميزوبوتاميا”، الاسم الذي أطلقه الاغريق على أرض ما بين النهرين.
نظّم الفنانون الثلاثة العرض الأول لاطلاع مجايليهم من الفنانين، عدا المهتمين، على تجاربهم النحتية وبعدها المضموني والشكلي. عرض كل منهم ست منحوتات برونزية متوسطة. علينا القول، ان مادة البرونز هي من أكثر الخامات شغفاً لدى النحات العراقي. أغلب المنحوتات تتمثل موضوعات فنية بسبب انشغالها بفضاء تجريبي وجمالي، وانتمائها الى اجرائية الممارسة النحتية، لكنها لم تخل من دافعية تعبيرية مضمرة تعاين هواجس الانسان العراقي في حاضره، وعلاقته مع واقعه الوجودي الكثيف وأسئلة الراهن الحزين والحوادث المهلكة.
ثمة هاجس يتقدم أعمالهم كي يدل على مشاعر الشجن، والاعتراض، والاغتراب، وحتى السخرية. المنحوتات لا تفصح بشكل مباشر، وتحريضي، عن حقيقة ما يجري في الواقع، لتعلقها بمنحاها الأسلوبي وخيارها الجمالي الخاص، لكنها توحي بوجودها، عبر تمثيلات بصرية تبدو خالية من الهناءة والدعة. ليس ثمة جمال يدعو الى الخفّة في أعمالهم، بل يتأمل تداعيات وجود حزين، مثقل بمصيريته.
النحاتون الثلاثة، حاضرون في المشهد التشكيلي العراقي منذ ما يقارب العقدين؛ مجتمعون في معارض مشتركة أو فرادى عبر معارض شخصية. لكن التقاءهم هذا يتحقق بأسباب انتمائهم الابداعي إلى جوهر النحت في معناه الخالص والنقي. حتى أن انشغالهم التجريبي هو من صلب خصائص هذا النوع الفني، بخاماته العتيدة، وشرطه الجمالي في التعامل مع الكتلة وأوضاعها، كما في خياراتهم لموضوعات فنية دالة على تجاربهم. ذلك ما يمنحهم مأثرة التعبير عن رؤاهم على نحو متميز.
يقدم رضا فرحان أعماله من خلال تنويع معالجته النحتية على ثيمة الرأس، الذي يكاد أن يكون شكله الأساسي والوحيد في تجاربه الفنية الأخيرة. يستعيد تمثيله على نحو شكلي متكامل، وبمعالجة تشخيصية محوّرة الملامح، بما يلائم موضوعته المفترضة للعمل ذاته. وهو شكل يتأهب للافصاح عن حضوره الرمزي الدال، بالعلاقة مع أشياء أخرى، هي غالباً مواد جاهزة الصنع يتم تأهيلها فنياً كي تكون من حوامل المعنى وعلامته في عمله النحتي. مثل هذه الاستعارة الرمزية تبقى مهتمة بالإشارة الى حضور الانسان وتعيين معناه الوجودي، بحساسية لا تخلو من بعد نقدي. ثيمة يتمثلها النحات رضا فرحان على نحو مختلف ومغاير، من مرجعية افترضتها بعض تجارب الفنانين الستينيين في المشهد الفني العراقي، التي تعززت منذ ثمانينات القرن المنصرم.
لا يثقل فرحان منحوتاته بالأفكار وإنما برؤية معاصرة مشغولة بالتهكم. حيث يؤالف بعضاً من مواده الجاهزة الصنع، وحاضرة في الاستعمال اليومي والحياتي، لتأسيس موضوعة تشير دائماً الى حضور إنساني مغرق بالمفارقة. رأس هو بدن لآلة “الجوزة” الموسيقية التراثية. عمل آخر يتكون من رأس حمل يضع له تاجاً، ويسمّي عمله هذا “الملكة”. تمضي الاستعارات في عمله النحتي، بمؤالفة مفعمة بالغرابة والتعارض. حساسيتها التعبيرية المعاصرة هي غالباً مركبة، وقائمة على تعالق بصري بين ثيمة الرأس، الإنسان، وأشياء من استعماله اليومي. تآلف يشير، أيضاً، إلى لحظة مأزومة للمعنى. على وفق هذه الرؤية تنفتح منحوتات رضا فرحان على تأويل مفعم بالتضاد، علاقة جمالية يغمرها الاختلاف البصري ولكنها تنتهي الى توافق شديد الرهافة في المعنى. ربما عبر هذا التعاطي تنطوي تجربته على استثنائيتها في المشهد النحتي العراقي، المفعم بالصرامة لجهة موضوعات لا يسمح لها بالانغمار في السخرية اللاذعة وخفتها.
في تجربة طه وهيب، رؤية قائمة على تخيّل الحكاية الفريدة من خلال النحت. حوادث قامت بها شخوصه النحتية وباتت شهودها الوحيدة. لا أثر لمعنى آخر سوى أشكال الشخوص وطبيعة الأوضاع الفنية التي توائم سردية الموضوعات. أشكال شاخصة أو في وضعيات جلوس، محوّرة الاّ من ملمحها الإنساني الأساسي، ومهيأة لتروي حكاية على قدر من الألفة والحميمية. أشكاله غالباً تتمثل المرأة أو الرجل، أو هما حاضران معاً، حيث تستدعي هذه العلاقة أنسنة مشهده النحتي، وهي من خلال ذلك تبدأ بروايتها.
معالجته لسطوح أشكاله النحتية، قائمة على إحداث حزوز وترسيمات زخرفية غائرة، وملامح حروفية، جميعها تضفي حساً تزويقياً مع لمسات عفوية يبقيها ظاهرة على أجساده المنحوتة. يستدعي النحات، هنا، مرجعياته من التوصلات الريادية لـ”جماعة بغداد للفن الحديث”، حيث يتمظهر الشكل الفني من خلال رمزية تصويرية مشغولة بحساسيتها الفولكلورية وبعدها الاجتماعي المحلي.
يؤطر هذه المعالجات معنى موصول بالقول، إن هذه الأجساد حاضرة كي تسرد حكاية ما. في عمله المعنون “تجلٍّ” يتوسط إله قديم بملمح طوطمي، جسدي المرأة والرجل، في أشكال منفصلة، لكنها متلاصقة، وعبر تبادل أوضاعها ثمة رواية ما. لا ضير في أن يرويها المتلقي. موضوعة عمله هي تلك الرواية المشتركة بين شخوصه النحتية والسرد المفترض عنها. في عمله الآخر “عائلة”، ثلاثة أشكال لنساء متجاورات، تتبين من أوضاعهن حكايات شتى، كل شكل يتهيأ لقوله الخاص.
يرغب طه وهيب أن تلحق منحوتاته بفضاء متخيل. لا أفكار تثقل سعيها للحاق بمجالها المنفتح على حرية حضورها. كما أن تجربته غير مطالبة بالتفسير، بل بالمشاركة واعادة تمثيل الحكاية، ما دام ثمة رواية تروى عن الانسان بنبرة عاطفية وأليفة.
النحات نجم القيسي يقترب في منحوتاته الى معنى أكثر قصدية، فيحمّل أعماله المعروضة رؤية مفهومية تدلّ عليها شخوصه النحتية. تحضر فكرة الزمن في تجربته هذه، ولكن ليس في بعدها المتعالي بل في شرطها الوجودي والواقعي. الانسان في لحظة صراع كي يمضي الى الأبعد، لكنها اللحظة ذاتها التي تبقيه ماكثاً غير قادر على التحول بأسباب ثقلها وكثافتها، وهو المشتبك في علاقة ملتبسة وخفية معها. يعبّر القيسي عنها بشخوص من دون ملامح تذكر، هي غالباً في وضع صراعي، عبر التعاطي مع رمز يتمثله على شكل دراجة عجلاتها مربعة الشكل.
أشكال تتلوى جراء فعل صدام أو سقوط من وسيلة يراد بها أن تبلغ حداً آخر، أو تسعى لتتجاوز الى فضاء مغاير، لكن ما يتحقق هو الأثر الذي يدل على بقائها، والرفض الذي تبديه للرحيل. في عمله المعنون “من دون جدوى”، ثمة شكلان متقابلان يستقلان وسيلتهما لكنهما يصطدمان. كانت لحظة المغادرة هي ذاتها لحظة البقاء. في “طائر الفينيق” لم تكن لحظة التحليق، الذي يبديه شكله النحتي الا أن تبقيه مشدوداً إلى الأرض. كائنات تسعى لإبداء فعل ما، لكنها غير قادرة أن تتخلى عن أثر وجودها السابق.
تنطوي أعمال القيسي على مغزى أيديولوجي، يشير إلى واقع سياسي واجتماعي راهن، مثقل بالخيبة والرمزية المباشرة، تلك التي تحدّ من سعيه الى تجاوز الحدود والمضي إلى أفق آخر. شخوصه بتعبيريتها المأزومة، هي تمثيلات لوجود حزين.