في مشهد الاحتجاجات والتظاهرات التي هزت العاصمة بغداد وعدد من مدن العراق ولا سيما الجنوبية منها، بمقدور المتابع المنصف لها مشاهدة حجم الخلط والالتباس لا في نوع المنخرطين فيها والدوافع والمطالب والمصالح التي تدفعهم للمشاركة فيها وحسب، بل في القائمة الطويلة والمتنافرة من الشعارات والعواطف والهتافات التي رافقتها، اضافة الى ذلك الجبهة الواسعة من المتحمسين لها، والتي شملت طيفا واسعا من سكراب السياسيين والاعلاميين الحاليين وفلول النظام المباد وغير القليل ممن تلاحقهم تهم الفساد والاجرام قبل “التغيير” وبعده، وكما يقول المثل “سبحان الجمعهم من دون ميعاد” كل هذا الحطام من البشر والمنابر والمنصات والقيم؛ وجدناهم وقد اجتمعوا على تمجيد وتبجيل واسطرة ما قامت به شريحة الشباب اليائس والعاطل عن العمل والمحروم من ابسط مقومات وشروط الحياة الكريمة. وسط كل ذلك برز لنا نوع من المحللين واصحاب العناوين الضخمة في رئاسة مراكز البحوث والدراسات “الفضائية” لينظروا لنا حول خصوصية الموجة الجديدة من الاحتجاجات بوصفها لا تمتلك رأساً ولا زعامات متفق عليها وغير ذلك من الحذلقات الفنطازية، بدلا من تقديم المشورة الرصينة والمسؤولة لهم؛ بضرورة الانتباه لهذا الخلل المميت في مثل هذه النشاطات المطلبية والسياسية المشروعة.
لم يعد التطرق الى ما تتسم به الطبقة السياسية وكتلها المتنفذة من فساد وهوان وعجز عن التصدي لمهمات ما يفترض انها مرحلة للعدالة الانتقالية، وغير ذلك مما شهدناه على مدى اربع دورات انتخابية؛ بالشيء المثير للاهتمام، لا سيما وان الكثير من ممثليها انفسهم قد اقروا ذلك مرارا وتكرارا. وهذا يعني اتفاق الجميع على المأزق الذي تمر به هذه الكتل و “الأحزاب” وكم كان شعار اسقاط “الاحزاب السياسية” عميقا وواعياً، وليس كما الشعار المستورد من ربيع العرب “الشعب يريد اسقاط النظام” والذي يصح لهم في مواجهتهم للانظمة الدكتاتورية، ولا يصح في الموقف من نظامنا البرلماني الاتحادي والذي افرغته “اشباه الاحزاب” من روحه ووظائفه الوطنية والحضارية المتطورة. نعم، نحن بحاجة الى تشريعات تنسجم وروح نظامنا الديمقراطي وعلى رأس ذلك قانون للاحزاب وآخر للانتخابات يؤسسا لولادة تنظيمات وطنية عابرة لـ “الهويات القاتلة” الطائفية منها والاثنية والمناطقية، لا كما يقترح جهابذة تلك الكتل باسترداد اللحمة الوطنية عبر اعادة قانون التجنيد الاجباري وغير ذلك من سكراب المشاريع النافقة.
الغضب والاستياء والحماسة من دون الوعي العميق ووجود الخطط والملاكات الرصينة، لن يفضي لتحقق التطلعات المشروعة للقطاعات المحرومة وعلى رأسها شريحة الشباب منهم، بل تتحول نشاطاتهم وتضحياتهم الى جهات تملك من الدهاء والمكر والعناصر والاستعداد والتنظيم، ما يؤهلها لابشع انواع الاستثمار كما حصل في محطات من تاريخنا الحديث. ليجد غالبية المحتجون أنفسهم وقد تحولوا الى مجرد حطب أو ما يشبه السلالم لصعود جيل آخر من قوارض المنعطفات التاريخية، كما حصل مع اسلافهم الذين لم يجيدوا الدفاع عن جمهوريتهم الاولى. ان بقاء الاحتجاجات المشروعة والنشاطات التي يصونها الدستور من دون رأس ولا هرم أولويات واضح ومعلل للمطالب، أو السماح بتحولها الى وسيلة واداة للكتل لتصفية الحسابات بين بعضها البعض الآخر؛ يعني التفريط بكل تلك الحماسة والتضحيات لصالح من سحق تطلعاتهم المشروعة وما دونته صرختهم على مواقع التواصل الاجتماعي “نازل آخذ حقي”…
جمال جصاني