محمد جبير
كيف يتدبر السارد تأثيث نصه الروائي في لحظة سردية مفصلية بين الكتابة ولا كتابة؟ قد يرى بعضهمأن لحظة الكتابة الأولى هي أصعب اللحظات، حين تكون الأسطر خالية من الكلمات، والرأس مزدحم بآلاف الجمل والاعتبارات، وجميعها تروم فتح مغاليق الذاكرة للخروج حزمة واحدة، وشكا وكتب الكثير من الكُتّاب عن هذه اللحظة، إلا أني لا أرى الأمر صعبا كما هو الحال مع سرديات اللحظة، التي قد تكون قريبة في شكلها الخارجي من تيار الوعي أو التداعي أو الاسترجاع كما يسميه «جنيت».
إذ ليس من السهل أن تقوم بتأثيث نصّ سرديّ ينهض بمجموعة شخصيات وحوادث وثيمات، ويتنقّل بها من لحظة إلى أخرى، ومن حدث إلى آخر ليعيد تشكيل الصورة الآنية وفق سياق سردي جمالي مغاير تماما لمسردها الواقعي، إلا أن هذا النمط من الكتابة السردية له اشتراطاته وأسسه وسياقاته التي لايمكن أن يتجاوزها السارد في لحظة سرد الحكاية، وأيّ تجاوز على سياقات سرديات اللحظة يخرجها من الآنية الزمنية الخاصة بها ليضعها في خانة تصنيفات سردية أخرى، بمعنى آخر تخرج من إطارها الزماني والجمالي.
تمثلات سرديات اللحظة في النصّ القصصي أكثر شيوعا من تمثّلها في النصّ الروائي، إذ إنها في القصة ابنة الزمن الآني، ولا تحتاج إلى مؤثثات كثيرة،وإنما تعتمد الومضة أو البرقية في النصّ القصصي أو الشعري القصير أو القصير جدا، فيما تتضاعف المؤثثات في الرواية وذلك لفضائها المكاني والزماني وتنقلاتها بين الأزمنة في تشابكها وافتراقها، في التشابك المتصالح أو التشابك المخالف إذ تبقى جدلية الزمن قائمة في النصّوالأحداث ومركباأساسيا من مركبات السرد الحديث في بناء وتشكيل النصّ الروائي، وهذا لايمكن أن يكون فاعلا ومؤثرا في النصّإلا من خلال التحكم الإبداعي للسارد في تحديد الانتقالات بين تلك الأزمنة لتحقيق الأهداف الجمالية للنصّ.
أرجحة الوسن:
لأول مرة يجنّس مهدي علي إزبيّن نصّه الكتابي، إذ سبق وأن أصدر عدة كتب سردية، عدّها الكاتب في حينها نصوصا، وبقي متمسكا في هذا التجنيس لكتاباته، لكنه في هذه المرة ثبّت مفردة رواية على نصّه «أرجحة الوسن»، وحسنا فعل كما قام بحذف الاسم الثاني من اسمه الثلاثي الذي وضعه على كتبه السابقة .
هذا القلق وعدم الاستقرار على الاسم أو الجنس الأدبي هو من أبرز مميزات شخصية الكاتب على مستوى الانتاج الإبداعي،إذ إنه لايبحث عن طبعات مستنسخة للمواضيع والأشكال السردية،وإنما يذهب بعيدا للغوص في أعماق الجملة السردية ليعيد صياغتها بما يتلاءم مع ذائقته الشعرية في السرد الروائي، ومن هذا المنطلق يخلق تميز جملته وخصوصية بنائها .
يشير مقطع الغلاف الأخير إلى إشكالية واقعية آنية، مثلما تشير جملة الإهداء إلى إشكالية أخرى أكبر من الإشكالية الواقعية وأكثر تعقيدا من الواقع الملتبس ذاته ومنسجمة بشكل سياقي مع التباس الأحداث وتداخلها وتشابكها مع المفردات المتداولة آنياً والتي تعطي مفهوما مغايرا لما كانت عليه من تداول في أزمنة سابقة.
« يقتحم ضياعي، وأنا أعيد حساباتي، غارقة في مطابقة الأرقام، أوقفه ب:
-لحظة من فضلك.
أدقّق عن عجز في الرواتب، على رأسي يقف موظفان، أخبر أحدهما عن مقدار النقص، يهمس بأذن صاحبه:
- إنّا أنزلناه في ….
ويشير إلى جيب قميصه، تطحنني أسنان التجريح، أقضم أظافر الهم:»أنا أختلس من رواتب الموظفين؟!كيف وهي بذمتي؟!»، تخرجني نفحة حنان من دوّامة الارتباك : - ست أنيسة توجد زيادة في راتبي.
أرفع عيني نحوه، أرشقه بعلامات الاستعلام، يذكر لي رقما يعادل المبلغ المفقود، تغمرني الطمأنينة، تبرد حرائق التفكير، يلتفت أحد الواقفين إلى زميله، يسمعه: - انظر لهذا، يريد يبين نفسه وطني».
في الموقف الواحد يظهر متغيران متناقضان «أنزلناه، ووطني»، الموقفان هما موقف سخرية من قبل الشخص الواقف والتشكيك في نزاهة أنيسة والموظف الآخر .
هذا التناقض ليس غريبا على بنية المجتمع العراقي الذي يمرّ في مرحلة تحول «من – إلى»، وهو الأمر الذي نلمسه أيضا في ثنايا الحكاية السردية عبر الثيمة المركزية ألا وهي «تنظيف» بما تحمله من دلالات وأبعاد ووسائل وأحداث، في هذا النصّ الروائي يرسّخ جماليات لغته السردية التي كانت حاضرة في نصوصه السابقة ويكشف عن مهارات الاختزال والاقتصاد في اللغة لتقديم حكاية سردية من الواقع اليومي والالتزام بالحرفية الفنية للشكل السردي من دون الخروج عن إطاريته الفنية إلى إطارات سردية بعيدة عن الشكل المراد الكتابة فيه، وهذا النصّهو الأنموذج الأمثل لنصوص سرديات اللحظة على المستوى الروائي وذلك من خلال الالتزام أو تجميد اللحظة السردية من لحظة رفع التابوت من الأرض إلى سطح السيارة، من هذه اللحظة يتمّ استدعاء واسترجاع الأحداث عبر المزواجة في الزمن السردي بين حاضره وماضيه ليختزل من خلاله التفاصيل الحياتية كلها .
هذه التفاصيل في الآنية الزمنية لا تسترجع عن طريق صوت واحد هو صوت السارد،وإنما مارس الكاتب التقطيع المشهدي الذي يؤدّي به كل السارد دوره الخاص ليضيء جوانب من جوانب الحكاية السردية، وهو أيضا باب آخر يفتحه الكاتب لتوفير استراحة القارئ وتركه في نشوة متابعة القراءة.