خلال حقب مختلفة اتخذت الانظمة السياسية في التاريخ الحديث للعراق اشكالا مختلفة في التعامل مع الدول الاقليمية عامة ودول الجوار خاصة من اجل التعبير عن هويتها والكشف عن توجهاتها ومنذ تأسيس الدولة العراقية وتبوئها مقعدها الاممي عام 1932 بقيت السياسة الخارجية العراقية خلال اكثر من ثلاثة عقود تدور في فلك المصالح البريطانية وتأثيرها كدولة عظمى احتلت العراق وفرضت وصايته عليه وتحكمت بمفاصل التأثير فيه وشهدت علاقات العراق مع محيطه الاقليمي استقرارا نسبيا انطلاقا من العلاقات الطيبة التي كانت ترتبط فيه دول الجوار العراقي مع بريطانيا وباستثناء التوترات الامنية المتفرقة على الحدود العراقية الايرانية والحدود العراقية السعودية استطاعت بريطانيا ان تحسم سريعا مع تركيا موضوع السيادة على الموصل بصفقة سياسية اظهرت كالمعتاد المهارة والدهاء الذي كان يتمتع به موظفو الادارة البريطانية وتناغم مع هذا الدور وجود شخصية سياسية عراقية مثل نوري السعيد اتسقت توجهاته مع التوجهات البريطانية فكان خلال توليه المناصب التنفيذية في رئاسة الوزراء ووزارة الخارجية خير ممثل حقيقي للمصالح العراقية البريطانية المشتركة وكان يمثل نقطة ارتكاز في التعبير عن هذه المصالح والمفاوض الحقيقي الذي رسم معالم مرحلة مهمة من التاريخ السياسي للدولة العراقية الحديثة توجها بتأسيس حلف بغداد واعلان العراق كملتقى سياسي اجتمعت عنده مصالح الدول الكبرى كالولايات المتحدة الاميركية وبريطانيا ودول أخرى في منطقة الشرق الاوسط كالباكستان وايران وتركيا والاردن والسعودية وغيرها وكانت سمات الاعتدال والتوازن والبحث غن المصالح العراقية واضحة في خطط وتحرك رجالات السياسة الخارجية العراقية في فترة الحكم الملكي وخلال العهد الجمهوري الاول بدا واضحا تأثر السياسة الخارجية العراقية بمواقف الزعيم عبد الكريم قاسم واختلاف توجهاته عن توجهات الحقبة الملكية وتعارضها مع السياسة الخارجية البريطانية وبرزت بشكل واضح اشكالية التعاطي مع احداث مفصلية مهمة مثل قتل الملك فيصل الثاني وبعض افراد عائلته وردود افعال الهاشميين في الاردن واعلان عبد الكريم قاسم لتوجهاته بضم الكويت للعراق وتأزيم العلاقة مع مصر وسعي الولايات المتحدة الاميركية والاتحاد السوفيتي السابق لايجاد موطئ قدم لهما في العراق الجديد ويمكن القول ان مرحلة الانقلابات العسكرية مثلت اهتزازا كبيرا في السياسة الخارجية العراقية لم تستطع فيه انظمة الحكم المتعاقبة اعادة العراق الى سكة التوازن والاعتدال ومع مجيء نظام حكم البعث تخلى العراق بشكل صريح عن مبادئ الاعتدال وجرى التعامل داخليا وخارجيا مع ملفات مختلفة بشكل متطرف وتفشت نوازع الشوفونية والطائفية المذهبية والقومية بشكل واضح مارس فيه نظام صدام بعبثية دور الشرطي في المنطقة فكان يعلن الحرب على كل من يعلن مخالفته او معارضته لتوجهات صدام فكانت الحرب على ايران القبر الذي دفن فيه زعماء البعث مبادئ الاعتدال والنأي بالنفس عن الازمات الخارجية اما احتلال الكويت فقد انهى اي امل بإعادة تصحيح لمسار العلاقات مع دول الجوار ولأول مرة في التاريخ اصبح العراق معزولا منبوذا بهذا الاجماع الاقليمي والدولي ومع سقوط النظام السابق حرص مدونو الدستور العراقي على التخلص من اثار هذه الحقبة الكارثية على الشعب العراقي وثبتوا مبادئ السياسة الخارجية للعراق في ثنايا الدستور وحرصت الحكومات التي أعقبت سقوط النظام السابق على انتهاج سياسة خارجية عراقية تعيد للعراق ريادته في المنطقة ودوره المحوري الذي تحدثنا عنه خلال الحقبة الملكية والتمسك باطر الاعتدال التي تجنب العراقيين صراعات المحاور المتعاكسة من هنا يمكن النظر الى مبادرة مجلس النواب العراقي يجمع شمل المجالس التشريعية في دول الجوار ومحاولة الانطلاق لعمل مؤسساتي خارجي يصنع الاستقرار والأمن في منطقتنا ويؤكد هوية العراق المعتدل الذي يلتقي عنده الفرقاء.
د. علي شمخي