علي صابر محمد*
من المعروف في كل الديمقراطيات أن تكون صناديق الاقتراع هي من يحتكم أليها في تحديد الفائزين في حصد أصوات الناخبين بوصفها عمليا المعيار الأكثر صدقية لتمثيل الجمهور وهم من سيتولى ادارة شؤون البلاد بالرغم من كل الشوائب التي تثار وتحيط بآليات الانتخاب ، وكذلك منح الحق للأكثرية ليعلو صوتها على الاقلية وتتمتع بتشكيل كابينتها الوزارية ثم تنفتح على الآخرين ضمن سياستها في استقطاب شرائح ومكونات المجتمع السياسية والاجتماعية والدينية بهدف طمأنتهم وإشراكهم في المسيرة والتشاور في رسم مستقبل البلاد ، ولكن في عراقنا الجريح حيث كل شيء أستثنائي تختلف الصورة عن القاعدة فدستور البلاد وضع بطريقة تسمح للأقلية أن تعطل إجماع الأكثرية الهدف منه عدم السماح للأغلبية الهيمنة على مقدرات الأقلية ويصب ذلك في خدمة الأخوة الكرد المسهمين في صياغته ويستفاد منه ممثلو المحافظات ذات المكون السني ، ثم أعقب ذلك تفتق الذهنية باستحداث مقولة الديمقراطية التوافقية وترجمتها التجاوز على قواعد الديمقراطية وفسح المجال أمام الأقلية بان تلعب دوراً أكبر من حجمها الطبيعي ، ومن هذا المنطلق طالبت الاقليات بتسنم المواقع السيادية أسوة بالأكثرية ، ولم يقف الحال عند هذا الحد بل روجت مفاهيم جديدة تحت لافتة التوازن ولا يعني ذلك في مستوى معين من الادارات أو القيادات وأنما المطلوب نزولا لأصغر مفصل في جهاز الدولة وبشكل متكافئ مع الاغلبية ،
وهذا يوجب ابراز الهوية الفرعية للمواطن وعلى حساب هويته الوطنية ويسهم بترسيخ النزعات الطائفية والعرقية الضيقة واليوم أيضاً تنطلق الابواق بمقولة الاستحقاق الوطني وعلى حساب الاستحقاق الانتخابي ، أن السبب الرئيسي لهذه الصراعات والمناكفات وبروز مثل هذه الاجتهادات هو عدم قدرة ممثلي المكون الشيعي وهم الاكثرية في البرلمان المنتخب من إدارة البلاد بالعقلية الوطنية والتخلي عن العقد الطائفية وإمتصاص إنفعالات ومطالبات الاطراف الاخرى يقابل ذلك عدم قناعة ممثلي المكون السني بالاعتراف بحجمهم داخل المجتمع العراقي كونهم الأقلية ومطالباتهم التي تتجاوز الاستحقاق الانتخابي ، أما الكرد فانهم يتعاملون مع القوى الاخرى بقدر المكاسب التي يحصلون عليها من مواقف هذه المكونات وهم يبنون لمستقبل يتجه نحو الانفصال عن المركز ، وفي خضم هذه العلاقات الشائكة يضيع حق المواطن وتتيه الهوية الوطنية للعراقيين.
أن الفشل الحكومي في إدارة البلاد وعلى جميع الأصعدة وخاصة في الجانب الأمني الذي أوصل البلاد الى منزلق خسرت الحكومة فيه السيطرة على نصف أرض العراق بسيطرة داعش على ثلاث محافظات وتقطع الاواصر مع كردستان ، وإنعدم الامن في بغداد بشكل ملحوظ وبرزت المظاهر المسلحة والمليشيات بنحو يستفزالناس ويثير غضب الشارع ولا تتحمل دولة القانون كل هذا الاخفاق الحاصل وأنما تتحمل جميع الكتل المشاركة في الحكم مسؤولية هذا الفشل بالرغم من ادعاءات الشركاء بانفراد دولة القانون باتخاذ القرارات وخاصة الأمنية منها من دون الرجوع الى الشركاء مما يجعلهم يتنصلون من تحمل المسؤولية ، وهذا ما جعل المرجعية تؤكد باستمرار على إحداث التغيير في الوجوه والسياسات لعل ذلك يؤدي الى تصحيح المسار ، ثم أن التقاطعات الاقليمية ضمن صراع المحاور قد أججت حدة الرفض للسياسات التي أنتهجتها الحكومات السابقة إضافة الى الملاحظات الكثيرة من راعي عملية التغيير في العراق ألا وهي أميركا ، كل هذه المعطيات تجسدت عندما نفذت العملية الجراحية للوضع السياسي ،
فقيام داعش بنحو مفاجيء بالهجوم على الموصل وأنهيار المنظومة الامنية في نينوى وصلاح الدين والانبار قد أيقظ الكثيرين ممن لم يجيدوا قراءة الاحداث وأتخاذ المواقف الصائبة ، فأحدثت صدمة كبيرة لدى الجميع وتقاربت الرؤى نسبياً بين القوى السياسية المتنفذة والمتصارعة ، ثم أن هجوم داعش على الاراضي المتنازع عليها مع أقليم كردستان وتقهقر قوات البيشمركة أمام مقاتلي داعش قد بين الحجم الحقيقي لقوة كردستان وأجبرهم على الرضوخ الى حقيقة وجوب أرتباطهم ببغداد وإستبعاد فكرة الانفصال في الوقت الحاضر والتي كان المتشددون يلوحون بها ، وكذلك يمكن القول بأن ماحصل بآلية تكليف مرشح الكتلة النيابية الأكبر بعملية جراحية أتت أكلها بشكل جميل فالأجماع الدولي والأقليمي والمحلي وموافقة المرجعية على هذا التكليف يعد تدخلا مثمرا أسهم بشكل كبير في التوحيد النسبي لخطاب القوى المتنفذة ولأول مرة في التأريخ الحديث تتفق القوى المتناقضة في موقف موحد لصالح العراق فروسيا وأميركا ثم ايران والسعودية ثم أميركا وايران هذه الدول التي لها التأثير الكبير في مجرى أحداث المنطقة تقف مع اوروبا بجانب العراق فهل باستطاعة القوى السياسية المحلية من استثمار هذا التضامن العالمي وتوظيفه لدرء الخطر عن البلاد ؟ وهل بمقدورهم تناسي خلاف1اتهم الجانبية والمطامع الضيقة والظهور بموقف وطني متماسك ؟ لقد كانت المخاوف تنتاب الجماهير من تمسك دولة القانون بمرشحها لرئاسة مجلس الوزراء على وفق الاستحقاق الانتخابي والذي وقفت معظم القوى السياسية سواء في داخل التحالف الوطني أو من ممثلي الكتل الكردستانية والمكون السني ضد ترشيحه وعدٌه العقدة المستعصية التي تعوق توحيد الجهود والرؤى ،
وللأمانة نقول بأن الموقف الذي ظهر من دولة رئيس الوزراء الذي أتسم بالعقلانية والشعور بالمسؤولية وبرغم كونه مكرهاً ولكنه كان صائباً وشجاعا وكنا نتمنى أن يكون ذلك قبل فترة لمنح الموقف قوة أكبر وسمواً أرفع ، ونعتقد بأن المرحلة الحرجة التي يمر بها الوطن تستدعي التنازلات وتغيير الاولويات وتقليل سقف المطالب ، فمحاربة داعش والمتحالفين معها تكون في صدارة الاولويات فوجود العراقيين ومستقبلهم مرهون بثبات قواتنا المسلحة وألتفاف الجماهير حولها بوجه غزوات الظلاميين ، ثم أن تشكيل الحكومة بأسرع مايمكن خاصة أذا تم التوافق مع جميع الكتل وممثلي المكونات للأشتراك فيها سيبعث برسالة أطمئنان الى العالم لمساعدة العراق في التخلص من العصابات الارهابية وستقطع الطريق امام الساعين لتفتيت البلد.
*كاتب عراقي