خالد المطلوب
يسهم نجاح الثورات الكبرى التي تحمل طابعا إيديولوجيا بانتقال أفكارها وعقائدها على المستوى الإقليمي والدولي، فيعجّل ذلك النجاح من عملية انتشار مبادئ الثورة وتقبل أفكارها بوتيرة أسرع وبتأثير أشد وقعا. وينبغي الإشارة إلى أن الفكر الأصيل يأتي نتاجا لظروف زمانية ومكانية خاصة ومحددة، وأن عملية نقل المبادئ والأفكار إلى خارج منبتها يتطلب تكييفا مناسبا لظروفها البيئية الجديدة، ويمكن في هذا الصدد الإشارة إلى التكييف الذي حلّ بالعقيدة الكالفينية-البروتستانتية، يوم قامت بريطانيا باضطهاد مناصري تلك العقيدة وتهجيرهم إلى العالم الجديد «أميركا»، فظهر هناك تعديلا للمذهب تحت مسمى «الأخلاق البروتستانتية» وروح الرأسمالية بتأثير من أفكار عالم الاجتماع ماكس فيبر والفيلسوف ليو شتراوس.
ولعل المثال الأكثر أهمية على صعيد العالم عن تسرّب الإيديولوجيات الجديدة شرقا وغربا، هو الثورة الفرنسية سنة 1789م التي ألغت الملكية المطلقة والامتيازات الاقطاعية للطبقة الارستقراطية… وكانت الثورة الفرنسية بمنزلة المدخل الرئيس لتنظيم الدولة في العصر الحديث، حيث ما تزال التطبيقات الدستورية لهذه الثورة (مثل إقرار فصل السلطات، فصل الدين عن الدولة، تشكيل جمعية وطنية، اختيار لجنة لكتابة الدستور، إجراء الانتخابات العامة) هي المعتمدة عند وقوع التغييرات الجذرية في بلدان العالم المختلفة. وكانت تأثيرات الثورة الفرنسية قد شملت تنامي الجمهوريات والديمقراطيات وتراجع الديكتاتوريات والاستبداد.
وبالمثل؛ كان نجاح ثورة أكتوبر في روسيا سنة 1917م وتسلم الشيوعيين للسلطة هناك، عظيم الأثر في تقبّل الكثير من الأحزاب والتجمعات السياسية والمثقفين من شتى بقاع العالم، للفكر الشيوعي. وكانت السلطة السوفيتية الناشئة -بمعية الأممية الشيوعية «الكومنترن»- قد اسهمت عمليا في التعريف دوليا بالفلسفة الماركسية وبثورة أكتوبر الاشتراكية، من خلال إتاحة الفرصة لقياديين من الأحزاب العمالية والشيوعية من مشارق الأرض ومغاربها للدراسة في معهد الدراسات الماركسية، الذي أنشئ خصيصا لهذا الغرض. ومن القيادات التي تلقت دراستها الحزبية في معهد كادحي الشرق؛ خالد بكداش زعيم الحزب الشيوعي السوري، ويوسف سلمان يوسف زعيم الحزب الشيوعي العراقي.
كما يمكن القول إن وصول الفاشيين للحكم في ألمانيا سنة 1933م، ومن ثم نجاحاتهم الكبيرة في الشطر الأول من الحرب العالمية الثانية، قد ساعد على انتشار الفكر القومي عالميا، فتأسست أحزاب قومية -وبخاصة في البلدان المستعمَرَة- الباحثة عن هويتها واستقلالها القومي. وبالرغم من شذوذ النظرية الفاشية بصفتها أكثر أشكال الفكر القومي تطرفا، إلا أنها لاقت ترحيبا وتأييدا عالميا، وأجرى عدد من التنظيمات ذات النزعة القومية في بلدان محتلة، اتصالات مع قيادة هتلر لمساعدة تلك التنظيمات في التخلص من الاحتلال، كما هو الحال مع أمين الحسيني مفتي القدس في ثلاثينيات القرن العشرين، والذي فكر بالاستعانة بالألمان لتخليص بلاده فلسطين من الاحتلال البريطاني، وذات الأمر حدث مع رشيد عالي الكيلاني الذي وقف ضد الوجود البريطاني في العراق إبان الحرب العالمية الثانية، وكان جزء من رهانه في اتخاذ ذلك الموقف هو التعويل على نصرة ألمانيا له.
وبالعودة إلى الفكر الأممي؛ أنجز كارل ماركس 1818-1883م فلسفته الخاصة بالشيوعية كنظام «اقتصادي-سياسي-اجتماعي»، في ظروف أوروبا القرن التاسع عشر، حيث تمكن ماركس من متابعة النضج الرأسمالي لإنجلترا وألمانيا وفرنسا، وما رافق ذلك النضج من نمو لطبقة عاملة ماهرة تمارس الإنتاج عالي المستوى «الصناعات الثقيلة»، ولكنها تعاني في ذات الوقت من اضطهاد اقتصادي واجتماعي. فكان ذلك الظرف محفزا لماركس لإنتاج أفكاره عن إنصاف العمال وتحقيق العدالة الاجتماعية والمساواة وإلغاء الفوارق الطبقية…
فهل تمكن الحزب الشيوعي العراقي من ملاءمة النظرية الشيوعية مع واقع حال العراق؟ كانت أفكار يوسف سلمان يوسف وهو المؤسس الحقيقي للحزب الشيوعي العراقي تسير في هذا الاتجاه، وتطالب بفهم خاص للفكر الشيوعي وبماركسية عراقية -إذا جاز القول- تلاءم وضع وظرف البلاد قبل منتصف القرن العشرين، فقد آمن الرجل بأهمية المزاوجة بين الأممية كمقولة شيوعية وبين الوطنية العراقية كطرح محلي محض. كذلك كان حسين محمد الشبيبي رفيق يوسف مؤمنا بذات التوجه، وهو ما يمكن تلمسه بوضوح في التقرير الذي قدمه الشبيبي إلى الكونفرانس الأول للحزب، والذي تطرق فيه إلى أهمية تفسير الواقع العراقي على وفق الأسس والمبادئ الماركسية. غير أن إعدام يوسف سنة 1949 -ومعه الشبيبي- أفقد شيوعيو العراق قائدا مهما ومفكرا مبدعا، ولعل بقاء يوسف حيا، كان بإمكانه أن يصنع ملائمة أكثر واقعية بين الشيوعية التي أملت ظهورها أوضاع خاصة في بلدان الغرب الرأسمالي، وبين ظروف العراق ذلك البلد الذي يغلب على سكانه الطابع الفلاحي.
ولكن، قبل أي شيء آخر؛ هل ناقشت القيادات الشيوعية في العراق بعد يوسف أمورا نظرية تتعلق بنقد الفلسفة الماركسية، من منطلق أن اعتناق الفكر تسبقه مرحلة الإيمان بصحته؟ فهل تداولت تلك القيادات -من بين مسائل كثيرة- تسلسل مراحل التاريخ حسب تصور ماركس «الحتمية التاريخية»، والتي تبدأ بالمشاعية البدائية وتنتهي بالشيوعية التي تضمحل فيها الطبقات فيختفي بذلك تناحرها كنتيجة حتمية، ألم يَرَ شيوعيو العراق أن ذلك التصور يحمل في طياته الشيء الكثير من اليوتوبيا والخيال، الذي ينافي الطبيعة البشرية القائمة على قاعدة «الحرب والسلام» وعلى مبدأ «القوة والضعف» منذ بداية التاريخ المكتوب حتى يومنا هذا، فهل يمكن لفلسفة ما أن تستشرف تغيرات السلوك الإنساني لمئات أو لآلاف السنين المقبلة!
المؤشر الأخر الذي يجدر ملاحظته عن الحزب الشيوعي العراقي، هو فشله في الوصول إلى سدة الحكم برغم عمره الذي جاوز الثمانين سنة، وقد يبدو من المفيد التنويه بعدم استلام أي من الأحزاب الشيوعية في عموم المنطقة العربية للسلطة في بلدها، فهل يمكن أن يُعزى ذلك إلى الصراع الدولي بين القطبين الكبيرين الاشتراكي والرأسمالي، وما تمخض عنه من استخدام سلاح الدين في لجة ذلك الصراع للطعن في أفكار الآخر، أم أن سبب الفشل قد يرجع إلى ظروف المنطقة -المطبوعة بالتدين الإسلامي- والتي رفضت الشيوعية، وشوهتها في كثير من الأحيان بحملات منظمة من حكومات ومن مؤسسات دينية، أم أن أمر الفشل ذاك يمكن أن يعود إلى أخطاء تكتيكية أو استراتيجية يتحمل وزرها الشيوعيين العراقيين وحدهم، أو إلى عوامل فكرية تتعلق بجوهر النظرية؟
أما بخصوص الفكر القومي العربي فكانت منابعه الأولى في العصر الحديث، قد ارتبطت بسعي العرب للتخلص من السيطرة العثمانية أسوة بالأوروبيين الشرقيين، الذين نجحوا في الحصول على استقلالهم فعليا من السلطنة العثمانية. وتأثر الاتجاه القومي العربي كذلك بالأتراك أنفسهم يوم شهدت الحركة التركية القومية «الطورانية» تناميا ملحوظا، أمام تراجع النزعة العثمانية الدينية سيما عقب انقلاب جمعية الاتحاد والترقي سنة 1908م. كما اختط الفكر القومي العربي لاحقا خط النظرية الألمانية، والتي كان من بين أسسها الرئيسية؛ العنصر واللغة، وهي نظرية مناسبة تماما للدويلات الألمانية التي سعت للتوحد في دولة جامعة، حيث يربط بين تلك الدويلات العنصر الجرماني واللغة الواحدة، ولعل السبب الذي دفع القوميين العرب للأخذ بالنظرية الألمانية عن القومية، هو ما يمكن تلمسه من تقارب وتشابه بين الألمان والعرب من سيادة العنصر الواحد وشيوع اللغة المشتركة.
وعن حزب البعث العراقي، بوصفه أحد تجليات الظاهرة القومية العربية، والذي استقى أفكاره الأولى من بعض شخصيات البعث السوري التي درست في العراق؛ يرفع هذا الحزب شعاره الأساسي «أمة عربية واحدة، ذات رسالة خالدة»، ولا يعير كثير أهمية لحقوق القوميات الصغيرة عدديا والتجمعات السكانية الأخرى، من كلدان وآشور وسريان وأكراد وغيرهم، منطلقا من فكرة صهر وتذويب القوميات الصغرى بالقومية الأكبر، إذ أن اسم الحزب الكامل يعكس تلك الفكرة العنصرية «حزب البعث العربي الاشتراكي». وقد سعى بعث العراق -وهو على رأس السلطة في البلاد- لمعالجة تمردات العناصر غير العربية معالجات مرحلية وتكتيكية، لا تنم عن رغبة في صنع حلول استراتيجية تسهم في وضع البلاد على عتبة سلم أهلي طويل الأمد. كما فشل البعث في تسويق أفكاره عن الوحدة حتى على الأنظمة القومية غير البعثية مثل النظام الناصري في مصر، فكيف إذن يمكن أن نتوقع نجاح البعث في تطبيق شعاره على مجموع العالم العربي الممتد من «الخليج إلى المحيط»!
يُعَد التطبيق في غالب الأحيان معيارا مهما للحكم على مدى نجاح أو فشل فكر ما، إلا إن نجاح التجربة -كما يُقال- لا يعني صحة جميع تفاصيلها، وبالعكس فإن فشل التجربة لا يشير بالمطلق إلى خطأ كل خطواتها. وبالإشارة إلى واقع حال تطبيقات الفكرة البعثية في العراق، يمكن القول أن البعث العراقي قد تحوّل بعد عام 1979 إلى الديكتاتورية المطلقة والحكم القمعي الاستبدادي، وقد اسهم ذلك التحول في المباعدة بين ضرورات المحافظة على السلطة الفردية وبين القيود التي يفرضها الفكر النظري، ولم يعد النظام يعنى بالمسائل الفكرية إلا بالمقدار الذي يساعد في تثبيت الحكم الديكتاتوري، وصار الحزب تابعا يدعم توجهات الرئيس من دون أن يكون قادرا على تقديم النقد أو تصحيح الأخطاء. إن وضعا كهذا يغلق الباب أمام أي نشاط فكري أو إبداع نظري، ويمسي الحزب والحكومة بل والدولة كلها في خدمة رغبات الزعيم وطموحاته الشخصية. عند ذاك تنتهي الظاهرة الحزبية وتفرغ من المعنى الذي وجدت لأجله أصلا.
*كاتب عراقي.