محمود الرحبي
يضطجع وحيداً، لا مؤنس له إلا الوجوه التي تتحرك في قلب شاشة التلفزيون أمامه. الصالة العريضة مُعَدّة دائماً لاستقبال ضيوف مفترَضين. ولكنْ في هذه اللحظة من الصباح قلما يرى طيف أحد، حتى من أهل البيت. الأطفال في مدارسهم والكبار في أعمالهم. والده، حارس القلعة، بعد أن يُنهي مهامه في حقله الصغير، يشق طريقه، على متن سيارة «البيك آبْ»، إلى قلب الولاية، حيث تقبع قلعة بركاء. هناك يقضي سحابة نهاره في احتساء القهوة وتبادل أطراف الحديث. أخواه، وهما ضمن أفراد الجيش، يخرجان بصمت في سيارة واحدة ويغيبان أياماً. أختاه وأمه مستلقيات في غرف البيت الواسع. أما بدرية، مطلقته وأم ابنه الوحيد مازن، فلا تظهر في الصالة إلا نادراً.
تزوجها ولم يشبع منها، وكان طلاقهما أشبه بالصفقة. حتى تبقى في البيت ترعى الطفل، تنازَل عنها لأحد إخوته. فتاة جميلة وعاقلة كأنما اخترعها حين أتى بها من ولاية عبري، نتيجة مصادفة أثمرت عن حب جارف. تَعرّف عليها في زيارة لصديق، طلبها من أخيها أولا، ثم من والدها، بعد أن جر معه كل عائلته وأعمامه لخطبتها.
عامان بعد ذلك، وقع حادث السير المميت، الذي قصف نصف ظهره وجعله مشلولا. بكى في وحدته حتى تقرّحت عيناه، ثم استعصم بالصبر؛ وقرر الخروج من عزلته بعد أن طلب أن ينصبوا له سريراً وجهاز تلفزيون في صالة الضيوف. يتحكم في جهاز الصالة. يمسك جهاز التحكّم، الذي خبره جيداً. وحين يكون وحيداً، وهو الوقت الأزلي الذي يبدأ تقريباً من الساعة السادسة صباحاً حتى حدود المساء، إذا استثنينا بعض التحركات الصامتة التي تقوم بها إحدى الأختين؛ في ذلك الوقت، عادة ما يكسر الصمت بمسلسلِ كرتون. مسلسلات الأطفال الصباحية، هل تجعله أصغر من عمره؟ أم تراها تتيح له أن يُرمّم سنين طفولته التي مرت من دون رسوم متحركة ومن بدون أي وقت زائد للعب؟ كان عليه أن يعمل في حقل النخيل الذي لا يدرّ مالا بعد أن هجر والده زراعة التبغ. كانت الطفولة كرائحة الذكرى المرّة، لأن القوارب الإيرانية ما عادت تقترب من الشواطئ العمانية لتقايض كسَر الملح بالغليون. كان الأب يحمل الملح ويبيعه في السوق منذ الصباح الباكر حتى هجوم الظلام. وحين أخذ يساعد والده في ما تبقى من حقل نخيل كانت المداخيل قد تراجعت. لم يعد أحد يرغب في تمر الباطنة، إذ هناك تمر الداخلية. شعر بأن مجهود الطفولة ذاك قد ذهب سدى، إذ صار أبوه يستجدي العمل من الوالي، الذي ساعده في أن يعمل حارساً للقلعة.
هناك الجَدّة أيضا. قليلة الكلام، تخاطب عُدّة خياطتها في صمت. تتعمد أن تحاذي رقدته وقت العمل. نومها ينقطع عند الفجر ولا يتصل إلا في الليل. لا تأخذها سِنة وقت القيلولة، بخلاف بقية نساء البيت. تحمل عُدّة خياطتها ومخدة الجلوس في يدها وتقترب منه في صمت. تصافحه، فيرفع يدها ناحية فمه من دون أن يقبّلها. لم يعد يهتم بمراسم التحية، التي تتحكم فيها غريزة العادة وتُوجّهها. حتى في حالة دخول الضيوف، لا يحرص كثيراً على مصافحتهم. يمد يده لمن يصافحه منهم في صمت ومن دون اهتمام. كانت أذنه هي العضو النشيط في تلك الأثناء؛ الأذن المسكينة التي قُدّر لها أن تجول في حدود ذلك المستطيل الإسمنتي. هو وجدته لا يتحدثان. حديثها الرتيب عن الزواج جعله يُفضّل متابعة مشاهدة أفلام الكرتون وإعلاء الصوت، بدل سماع شكواها. تخاطب عُدّة الخياطة وكأنما عشر آذان تلتقط كل ما تقوله وتهمسه. «نعيش في بيت فيه بنتان عانسان؛ ماذا سنفعل بالشيطان؟» تكرر الجدة.
ثم تدخل أول الأقدام الغريبة. ثلاثة من أبناء الجيران يسألون عن مازن. «لم يعد بعدُ من المدرسة»، يجيب النائم. وقبل أن ينسحبوا يظهر مازن راكضاً يحمل بكلتا يديه حقيبة ثقيلة؛ يقذفها قرب سرير والده وينحني ليقبّل يده، ثم يختفي خارجاً إلى حيث سبقه رفاقه. الأمّ تحمل وعاء الحليب الذي ظل جاثماً قرب السرير. «لم تشربه!»، تقول الأم. «شربت نصفه يا أمي، ألا ترين؟»، يجيب الراقد. ترشف جرعة منه وهي تبتعد. يكتفي بشرب الحليب ويترك جسده يذبل ويختفي تحت الأغطية. الذهاب إلى المرحاض يشبه جلسة تعذيب، له ولأختيه، لذلك يترك معدته فارغة قدر الإمكان. ولكنْ عند الضرورة، تمسك إحدى الأختين المقعد وترفعه الأخرى من ظهره. تدفعانه جهة المرحاض. والزوجة السابقة تحمل سطل ماء ساخن. تتجنب التقاء عينيها بعينيه. يبحث بيأس عن عينيها. تُدخله الأختان إلى بيت النظافة، تدخلان معه وتغلقان الباب. تصطدم عيناه بصفحة الباب. زوجته السابقة في الخارج تنتظر أن يؤذَن لها بتقديم وعاء الماء الساخن. حاجز آخر ينتصب بينهما وهي تنتظر.