للبؤس والجحيم مستويات وأعماق، ولن نبتعد كثيراً عن الموضوعية عندما نقرن مسألة وعي واكتشاف ذلك بنوع وحجم القراءة والمطالعة المتاحة للمرء، وتطلعاته ومغامراته لاكتشاف تضاريس الحرية والمعرفة. وفي موروثاتنا المشرقة لا المعتمة غير القليل من الاشارات حول هذا الأمر، وقد عكست سيرة حياة حكيم المعرة (ابو العلاء) جانباً من هذه المحنة الوجودية والأزلية. وفي حقبة النظام المباد تحولت صفة الجهل واللامسؤولية الى وسيلة مجربة في الدفاع عن ابسط حقوق الانسان البدائية الا وهي (البقاء على قيد الحياة) وتجنب رصد مجسات ذلك الكائن الخرافي وشبكته الاخطبوطية في الرصد والتجسس والفتك بكل من تسول له نفسه بالتقرب من تلك الجغرافيات المحرمة. حصاد تلك التجربة المريرة لم ينحصر بما عرفه العالم كله، في الخسائر الهائلة في الثروات والممتلكات والارواح، بل تركت أجيالاً من البشر مجردة من أبسط اشكال الحس بالمسؤولية، ومن روح التضامن والتكافل الاجتماعي والسياسي. أجيالاً تقبع في قعر أولوياتها مهمة القراءة ومتابعة الشأن العام.
مثل تلك المخلوقات المجردة من الاهتمامات الحيوية (المطالعة والفضول المعرفي) هي الاساس المكين الذي تستند اليه انظمة الحكم الشمولية، وهي تشكل البيئة المناسبة لنمو التيارات المتشددة والقشرية. لذلك تبقى مشاريع التحول الفعلية والثورات ضد انظمة العبودية والاستبداد عاجزة عن الوصول الى اهدافها في بناء المجتمع ومؤسسات الدولة الحديثة، ان لم تتحرر هذه الأجيال من مناخات الغيبوبة وحقول الهموم المتخلفة التي يتخبطون بين أمواجها. هذه المحنة، يدركها جيداً من عمل في حقل الصحافة والاعلام، خاصة وان هذا التصحر لم يكتف بالطبقات الشعبية التي تئن تحت وطأة الشروط المعيشية الصعبة، بل امتد نفوذه الى الطبقات التي لاتعاني كثيراً على هذا الصعيد. لذلك لم يعد شيئاً غير مألوف مانشاهده ونسمعه من اجترار واسع للاجابات الجاهزة واليقينية حول شتى المواضيع، ومن قبل شتى شرائح ومستويات شعوب وقبائل هذا الوطن القديم. لن نبتعد عن الحقيقة كثيراً، ان وجدنا وشائج وثيقة بين حالة التصحر والجفاف التي افترست تضاريس ماكان يعرف بأرض السواد، والتصحر المعرفي والثقافي الذي تسلل الى اعماق أرواح الأجيال التي ولدت وترعرت على شعار: (اذا قال فلان…)
لذلك لن تجدي نفعاً كل هذه الثورات والانقلابات ان لم ترافقها وثبة فعلية من ضفة السكون والاجترار الى حيث الحركة والبركة والقراءة والسؤال.