أمير الحلو*
قلت له أنني وفي ظل أجواء البلاد الراهنة وخروج الخلافات الطبيعية الى صراعات غير موضوعية قررت البقاء في داري وعدم الخروج الى الشارع حيث المضايقات بشتى أشكالها وصورها، وفي أحد الأيام زارني صديق عزيز وإقترح علي أن نسير مشينا خارج شوارع وأزقة المدينة وصولاً الى بداية طريق النجف- الكوفة حيث تقلنا سيارة نقل الركاب الى الكوفة ونجلس في أحد المقاهي الجميلة على نهر الفرات ثم نتناول طعام العشاء ونعود بالطريقة ذاتها، فإستجبت له وذهبنا عبر المسالك الآمنة وقضينا فترة المغرب والمساء نلعب (الدومينو) حتى حل موعد خروج آخر باص الى النجف قرب منتصف الليل، وبالفعل استجبت له وقضينا وقتاً ممتعاً وأميناً في الكوفة ثم ركبنا الباص للعودة، وما أن سار قليلاً حتى إكتشفنا (جابي) المصلحة وأخذ يستفزنا بالسباب والكلمات النايبة فسكتنا وضبطنا أعصابنا، وبعد دقائق وقف الجابي في مقدمة السيارة ووجهه الى الركاب وأخذ يطلق الصرخات بالشعارات التي كانت رائجة آنذاك، وسرعان ما تحول الباص الى سيرك فالجابي (يدبك) والركاب يصفقون معه ويرددون هتافاته مع التصفيق، أما أنا وصاحبي فقد لذنا بالصمت، وعندها تقدم إلينا وقال بعصبية: لماذا لا تصفقان معنا، ألا تعجبكما الشعارات والهتافات؟ فأجبته: أننا راكبان في الباص وأنت الجابي ودفعنا أجور النقل لإيصالنا فما هو الخطأ الذي إرتكبناه؟ عندها أرعد وأزبد وذهب الى سائق السيارة وتكلم معه قليلاً وهو يشير إلينا فقام السائق من جانبه بزيادة السرعة وعدم الوقوف في المحطات حتى وصل الى مركز شرطة النجف حيث نزل الجابي مسرعاً وأغلق السائق جميع الابواب، ثم عاد ومعه مفوض الشرطة حيث قادنا الى التحقيق بتهمة شتم الزعيم وذهبت أوراقنا التحقيقية إلى (الحاكم) حيث أمر بتوقيفنا على ذمة التحقيق، وبعد أيام أبلغوني بأنني محجوز بأمر الحاكم العسكري العام، وها أنا أمامك بتهمة لم أرتكبها … وبعد أن إنتهيت من كلامي الذي تابعه بشيء من الحزن قال لي بود وبصوت منخفض: سنرسلك الى مدير الأمن العام و(تفاهم) معه، ووضعوني في غرفة تسِع عشرين شخصاً وجرى حشر مائة موقوف فيها حيث يجري تبادل الحيز الضيق للنوم، وقد أخبرني أحدهم ومن خلال خبرته بأن من عادة مدير الأمن العام أن يبادر بالشتيمة وتوجيه الإتهامات والتهديدات وما عليك سوى الصمت حتى يستنفد ما عنده وبعدها يتحول الى النصح والإرشاد .. وأخذت بهذه النصيحة وسكت مع شتائمه وتهديداته ولكني جاوبته وهو يستهزئ من حالة موقوف بقي أياماً عديدة في مراكز الشرطة فقد قال لي: هل رأيت نفسك في المرآة، وماذا شاهدت؟ قلت شاهدت إنساناً مظلوماً، وهنا غضب من جوابي ورماني بقنينة الحبر الموجودة على مكتبه فتلافيتها حتى جاءت مرحلة الهدوء حيث ألقى علي محاضرة سياسية ثم نظر الى أوراقي وقال أن السجن خير تأديب لأمثالك وأرسلني للحجز المفتوح في سجن بعقوبة حيث وجدت المئات من الشيوعيين والديمقراطيين والقوميين بشتى فصائلهم محكومين أو محتجزين في السجن.
رحم الله عبد الكريم الجدة فلم يستطع تحمل القيام بإنقلاب على الزعيم فقاتل قتال الأبطال في وزارة الدفاع وصولاً الى التضحية بروحهِ فداء لما يؤمن به.