«الأدميرال لا يحب الشاي»..خطاب النص وتمنيات المتلقي

محمد جبير

رواية الكاتب نزار عبد الستار «الادميرال لا يحب الشاي» هي نص خارج توقعات المتلقي الذي يعرف الكاتب عن قرب، سواء الحياتي أو الابداعي، ذلك هو أول مفتتح في جملة إثارة الأسئلة التي تنتج من فعل مواصلة القراءة للنص، إذ إن هذا النص في اختلافه مع بعض تجارب الكاتب يقترب أيضاً من توجهه الجديد في إنشاء وتكوين في آليات اتجاهه، وأعني هنا رواية «مسيو داك» من حيث الجدة في عملية البحث عن فاعل سردي تقوم عليه البنية السردية، والفاعل عنصر غير تقليدي في السرديات المعاصرة «حشرة تفتك بالزرع» خارج المحيط الجغرافي للكاتب «لبنان»، لكنه لم يكتب نصاً مجرداً وإنما استثمر الفضاء الروائي في تمرير خطابه السردي من خلال الكشف عن لصوص بلاده الذين يتمتعون بهذا الفضاء، وهو بذلك يقدمهم بوصفهم حشرات تفتكك بالبلاد والعباد، أو كما قيل في «الضرع والزرع».
هذا الاشتغال السردي الذي يمتاز بانضباطية عالية في إدارة الحدث السردي يعود إليه مرة ثانية في تجربته الروائية هذه «الأدميرال لا يحب الشاي»، وهو أيضا يشتغل في منطقة خارج محيطه الجغرافي المعيشي أو السكني «الموصل/ بغداد»، إذ يتخذ من البصرة فضاءً سردياً للتجربة الروائية، وإذا كان قد ذهب إلى عمق تاريخ تشكل هذه المدينة، وإعادة حفريات هذا التاريخ بين لندن والهند والبصرة، وهي فضاءات تشكل الشخصية المركزية أو الفاعلة في بنية الحدث السردي، ودورة الصراعات الاستعمارية في الاستحواذ على الأرض والثروات بين الاستعمار الهولندي والعثماني والانكليزي.
في ظل هذا الصراع وتيه «عزيز لانكستر» في البحث عن هويته العربية تتمركز بؤرة الحدث والصراعات الهامشية والمركزية، ما بين الصراع في الاستحواذ على مزارع الافيون وتجارته في مناطق آسيوية مختلفة برعاية بريطانية وخدمات قرصنية يقدمها عزيز لازدهار هذه التجارة وتنمية اقتصاديات الامبراطورية البريطانية التي لا تغيب الشمس عن أراضيها، ورغم خدماته ينفى إلى البصرة بقرار من الملكة.
في البصرة، ومن داخل جدران «شركة الهند الشرقية البريطانية» الخربة والمهجورة، التي فكرت بريطانيا بتصفية أعمالها «كانت انكلترا تظن أن 1821 هو عام التصفية والاغلاق التام لشركة الهند الشرقية البريطانية». «الرواية /ص 44». لكن تشارلز لانكستر الذي حمل عزيز اسمه، أخبره الحقيقة التي تكمن وراء تأسيس هذه الشركة « لا تستمع الى هذا الهراء الذي يقال في لندن، فشركة الهند الشرقية البريطانية لم تتأسس لكي نستولي على ثروات الهند كما يظن أغبياء مجلس العموم، وإنما لندمر بها الصين، لهذا لديك الوقت الكافي لكي تصبح انكليزيا حقيقيا». «الرواية /ص45».
هذه الرواية التي تزدحم بالأحداث والصراعات والمتغيرات السلوكية والنفسية لا يمكن الوقوف عندها ضمن عتبة واحدة بعينها وإنما تتعدد عتبات القراءة حتى يمكن الوقوف على الجزئيات الكلية التي شكلت هذا النص، لكني أقف هنا عند عتبة هذا المقال «خطاب النص وتنميات المتلقي»، حيث ترتكز هذه العتبة وتتماهى مع الجملة السابقة المستلة من النص «تدمير الصين»، وما علاقة الصين التي لم تكن في القرون السابقة منافساً لبريطانيا العظمى أو الدول أخرى؟
معنى ذلك أن الرواية في إطارها العام ليست رواية مغامرات وتشويق وحفريات في تأريخ مدينة، وإنما تذهب أبعد من ذلك إلى صراع كوني في الاستحواذ على الثروات والبشر، وهو ما نراه مبثوثاً بين سطور الرواية بوصفه آراء أو متبنيات فكرية لهذه الشخصية أو تلك، لكن في النص جملة ترد في بداية الرواية، قد لا يتوقف عندها المتلقي وتبقى عابرة لتنسى بعد تراكم كم من التفاصيل السردية التي تغير حيوات الكثير من الشخصيات، هذه الجملة «هشمت رأس السيدة بريطانيا بمسدس هولندي؟ أي خراء هذا الذي شربناه بالأمس عند ماريكا؟». هذه الجملة هي بمثابة الصندوق الأسود الذي يضم العملية السردية ويكشف عنها خطاب النص في الخاتمة، لا سيما وأن عزيز يندم على فعلته هذه «أيها الاحمق لماذا لم تمنعني؟ هذا فعل آثم وجبان. لقد قلت لك مرارا، الأشرار الذين يطلقون النار على الرأس، لن يسمح لهم في الجحيم أخذ استراحة لشرب قدح من الماء البارد».
يدرك عزيز جيداً في ساعة الصحو خطورة الفعل الذي أقدم عليه في ساعة سكره، إذ أطلق الرصاصة على صورة السيدة بريطانيا في منطقة الرأس وبسلاح هولندي، بمعنى أن هذه الجريمة التي هي خيانة عظمى للتاج البريطاني، وخيانة تم ارتكابها بسلاح عدو ناصب بريطانيا العظمى العداء والصراع على مناطق النفوذ الاستعماري فهي جريمة مركبة في الوقت ذاته، ورغم كره الفرنسيين والهولنديين للأدميرال عزيز والخدمات التي قدمها لبريطانيا، لكن هذا الفعل الذي سوف ينسى أثناء فعل القراءة لن يمر من دون عقاب، وإذا كان هذا الحدث العرضي بالنسبة للمتلقي الذي سيغوص في بحر التفاصيل رمية غير واعية أو فعلاً سردياً تشويقياً ينسجم مع أفعال الشخصية ويتوافق مع استعراضاته الحياتية في صحوه وسكره وهو يقف منتشياً ببدلة الأدميرال، فإن منتج النص «الكاتب» يعي جيداً أهمية رميته هذه في تركيز خطابه السردي الذي يكشف عنه في خاتمة نصه السردي.
«مد شينغ يده وأخرج من ردائه المنطوي مسدس كولت صوبه إلى رأس الأدميرال قائلا: – هذا لأجل الصينيين الذين قتلتهم بالأفيون سيدي الأدميرال.
بقي عزيز ثابتاً في مكانه:

  • أعرف هذا المسدس .
    تقدم شينغ ويده ترتجف حتى لامست فوهة المسدس جبين عزيز الذي حافظ على ثباته خشية أن تتأذى بدلته الأدميرالية، وقال وهو ينظر في عيني شيتغ:
  • يبدو أن السيدة بريطانيا لم تسامحني». «الرواية/ ص263».
    ما الذي نقرأه من خلال هذه الخاتمة للنص، وما هو القول الواضح في هذا النص؟
    قتل عزيز بعد أن تعرف على عمه وانتمى الى عشيرته وأهله في البصرة، ووزع ما كسبه من تجارة الشاي وما غنمه من الهولنديين على أبناء العشيرة، بمعنى أن عزيز انفصل عن وهمه البريطاني في العودة إلى جذره العربي، وهو ما دفع بالقنصل البريطاني في البصرة أن يقدم سلاح عزيز إلى شينغ ليقوم بفعل الاغتيال، وهذا الخطاب هو درس للعملاء الذين يخدمون الاجنبي، ولا يختلف خطاب هذا النص عن خطابة السابق في نص «مسيو داك»، وهو ما يؤكد رؤية ومنهجية الكاتب في المتغيرات المحيطة بها، فإن الدول الكبرى أمام مصالحها وبقائها في دائرة الاهتمام لا مانع لديها من التحالف مع الشيطان أو أشد الأعداء في تنفيذ ما تخطط له، وهو الأمر ذاته يحدث اليوم في الصراع الامريكي الروسي في الحرب مع أوكرانيا، إذ تستقتل أمريكا في سحب الصين من الخندق الروسي إلى جانب الخندق الاوربي الامريكي لإفشال مخططات روسيا في أوكرانيا، مثلما أطلق الرصاصة على رأس السيدة بريطانيا في الصورة، فإن يداً أجنبية تستخدم للثأر منه أو للاقتصاص في إطلاق الرصاصة على رأسه من المسدس ذاته.
    أنا بوصفي متلقياً للنص، حزنت لهذه النهاية أو المصير الذي وصل له عزيز، إذ كنت أتمنى أن تكون خاتمة النص في الصفحة ما قبل الأخيرة التي تبقي عزيزا مزهواً بانتصاره في يوم انتصار الشاي على القهوة، أو انتصار بريطانيا على هولندا في صراع المصالح في أراضي النفوذ، هذا الانتصار أنجزه عزيز آل السفان حيث «بقي مرفوع الرأس، وحافظ على زهوه كمنتصر». «الرواية ص261».
    لكن هذه النهاية الايجابية للشخصية ممكن أن تصلح لرواية الشخصية أو رواية الأحداث وتكون نهاية مشوقة في خاتمة نص مغامرات، لكن الكاتب يقفز على هذه النهاية إلى النهاية الاكبر، أو من ذروة إلى ذروة ختامية ترتقي بالنص إلى خطابه المنشود .

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة