تجليات السرد والمضمون في رواية «لا تقل وادعا» لـ»نهاد عبد جودة»

محمود خيون

قالوا عن الأدب الكلاسيكي بأنه مصطلح يطلق بصورة عامة، على الأعمال التي لا تزال تقرأ على الرغم من مضي زمن طويل على صدورها، إبتداء من الحضارة الإفريقية والرومانية والصينية وحتى القرن العشرين كما يشمل الأعمال التي تقرأ من قبل مختلف الثقافات أي التي يتواصل ويتفاعل معها القراء في كل زمان ومكان ومن مختلف المراحل العمرية وبحسب ما اكدته الكاتبة رشا المالح في مقال منشور لها في صحيفة البيان، قالت فيه، «ليس هذا فحسب فالاعمال الكلاسيكية تفتح للقارىء نافذة يرى من خلالها جانبا من حياته وحياة الآخرين، لتضيف إلى معرفته وتوسع آفاق تفكيره، والتي تدفعه إلى التأمل والتعاطف والارتقاء بوعيه ،وفي بعض الاحيان إضاءة جانب معتم من عالمه وبالتالي الكشف عما كان خافيا عليه في منظومة الحياة والمجتمع، كما يستنهض هذا النوع من الأدب المشاعر النبيلة في الإنسان التي تجلو الروح وتحررها من شوائب الحياة اليومية، والمفاهيم المادية الاستهلاكية التي تغرب الإنسان عن نفسه ومحيطه، كما تساعده على فهم ثقافات الشعوب الأخرى والتعرف على منظومة تفكيرها ونمط حياتها .
ومن هذا المفهوم تتجلى أحداث وفصول رواية ( لا تقل وداعا ) للكاتب نهاد عبد جودة والتي تعيد إلى أذهاننا ما كتبه أدباء الأربعينيات والخمسينيات وما تلاها من روائع القص والرواية التي تمتاز بالوضوح والبساطة في الوصف والتشبيه والبناء الفني القصصي والروائي أمثال طه حسين ومحمد عبد الحليم عبد الله ويوسف السباعي ونجيب محفوظ وغيرهم، إذ يصور لنا الكاتب مشاهد متكاملة لمسيرة حياته منذ طفولته حتى بلوغه وإكمال دراسته الجامعية ويتفنن في تحديث جميع مراحل التعاسة والبؤس التي عاشها مع عائلته حتى تجاوزها بكل إرادة وصبر وجلد وقوة باس….( طفولتنا مغلفة بالحرمان، يتحكم بها وجع ممزوج بنزيف القهر، ثمة شيء مفقود لم تحدد ملامحه بعد، تسيرنا الأيام كالدمى مجردين من تحقيق أي امنية لبساطة العيش وشدة العوز الذي يحتوينا، قريتنا الصغيرة التي تقع على محيط مدينة الناصرية في جنوب العراق، اجواؤها الهادئة تمنحنا فسحة مريحة لكي نلعب ونحلم كالاخرين )..
بهذا الأسلوب الكلاسيكي المباشر والسلس، يبدأ الروائي نهاد عبد جودة الفصل الاول من روايته( لا تقل وداعا ) ثم يسترسل في سرد اختلاجاته وذكرياته عن ماض بائس وتعيس كان هو أحد أبطاله الرئيسين..فيكمل ذلك الحديث المشحون بالشجون والحسرات( الحلم هو الشيء الوحيد المشروع لنا لذلك كانت أحلامنا مؤنسه ويقظتنا مرعبة لكن امنياتنا واقعية جدا لا يشوبها الخيال ).
ويتبين للقارىء ومنذ الوهلة الأولى لشروعه بقراءة الرواية أن بطلها كان ينوء بأثقال انهكت قواه وامتدت مخالبها لتترك أثرها البالغ في نفسيته وشخصيته وهو يعيش ويصدم بواقع متجهم وامانٍ عقيمة لا يمكن لها أن تتحقق..( هذا الكوخ الطيني المتهالك الذي نسكنه، مشهده يصيبني بالدوار والذعر، سقفه المتهرىء الآيل إلى السقوط ينذر بمفاجات مرعبة )..ويستمر الروائي نهاد عبد جودة بتدوين اعترافاته على واقعه المرير وايامه التي غلفتها الاحداث بتعاسات وبؤس شديد افقده حتى شعوره وإحساسه بمن يحب فهو يغادر كل مكان يمكن أن تفتح فيه زهرة أخرى من زهرات الحب والهوى..( عدت أجر اذيال الخيبة بروح منهارة، اتسكع بشوارع المدينة من دون هدف، مسحت الأقدار ذاكرتي حتى جعلت مني كائنا شبه منبوذ في قعر المتاهة…اعيش اللحظة واحلم في بصيص أمل في نهاية النفق المظلم الذي اتخبط في اعماقه، ابحلق في وجوه الناس وكأنني اتلو على مسامعهم صرخاتي الخرساء )…
في هذا المشهد أو غيره ينقلنا الروائي نهاد عبد جودة إلى ما كان يعيشه ويشعر به وكأنه في دوامة مفرغة وواقع إجبره على التخلي عن اختلاجات قلبه حين غادر كل معاقل الحب والعشق الآدمي وخاطب من يحب بلهجة متعثرة تصحبها آهات تحرق جوف فمه ( قلت لها بعد أن رأيت حالة الانكسار التي تحتويها، زميلتي فاتن، أنتِ إنسانة رائعة وجميلة، رقيقة كالوردة مشرقة في نواظر الأساتذة والطلبة جميعا )..ويردف بالقول..( للمرة الأخيرة أقول لك أن الواقع المسحوق الذي جئت منه لا يمنحني الحق أن أعيش كالاخرين )…
وهو بهذا يؤكد بأنه لست جديرا بحبها..
ومما تقدم استطيع القول بأن رواية ( لا تقل وداعا ) للكاتب نهاد عبد جودة تعد من الروايات الكلاسيكية التي تتحدث بكل وضوح وسلاسة عن مجريات حياة عاشها بكل بسالة وصبر وعبر إلى الضفة الأخرى بسلام،
واختصر فيها الزمن الى ابعد حدود الرؤية في البناء الفني القصصي الذي يعبر عن الفكرة الاساسية للرواية وهي ان الانسان ومهما بلغت ذروة المآسي في حياته اليومية والتي تنعكس سلبا على نفسيته وعقليته ، فهو لديه القدرة الى ان يتجاوز المحنة ويعيش لحظات هانئة مع من يحب ويعشق على عكس ماكان عليه في سابقة عهده يهرب ويختفي عن الانظار منزويا عن عيون كان يعتقد انها كانت تراقب خطواته عن كثب .
لقد تمكن الروائي نهاد عبد جودة من فك ذلك اللغز المحير في حياته وذاته وعبر عن ذلك في اكثر من موقف ومشهد سجلته احداث وفصول الرواية .

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة