«جسور مقاطعة ماديسون».. روبرت والر حكّاء مدهش

هشام أصلان

1
قراءات من هذا النوع قد تذكر الإنسان بأن الكتب وجدت لتبقى.

2
كانت مفاجأة أن تكون ترجمة محمد عبد النبي لرواية «جسور مقاطعة ماديسون»، الصادرة حديثًا عن دار الكرمة في القاهرة، هي الترجمة العربية الأولى، ذلك أن الرواية، التي ألفها الكاتب الأميركي روبرت جيمس والر، صدرت أوائل التسعينيات، وهي ذائعة الصيت لدرجة أن كثيرًا منّا يعرفها، ما تصورت معه أنها من المؤكد قد قُرئت عربيًا وأنها من القراءات التي فاتتني رغم شهرتها. وربما أن تلك الشهرة الكبيرة تسبب فيها نجاح الفيلم المأخوذ عنها بنفس الاسم، وأخرجه كلينت إيستوود وتقاسم بطولته مع ميريل ستريب، وإن كانت هناك أفلام كثيرة عرفناها دون أن ينتشر بيننا كونها مأخوذة عن أعمال روائية. أو ربما يكون اختلط الأمر عليّ من بابه بسبب أن الفيلم والرواية يحملان العنوان نفسه.

3
«كنت أتمنى ألا ينتهي بسرعة». فكرت في العبارة التي يقولها البعض عند مقابلة كتاب يحبونه. أعتبرها عبارة مجازية، غير أنني استشعرت معناها المباشر مع هذا الكتاب. وحدث أن ضبطت نفسي مرة، في الطريق إلى البيت، أنتبه إلى أنني أنهيت الرواية بالفعل بعدما تعشمت لحظات في ساعة ممتعة من القراءة، بالأحرى معرفة الجديد بين كينكد وفرانشيسكا، بطلي الحكاية. أود لو أقول إن الترجمة الرائعة سبب رئيسي، ولكن تذكرت أن كلامًا مثل هذا يثير حفيظة المشغولين بشأن الترجمات الأدبية هذه الأيام، وبات السؤال المطروح بكثرة: «كيف عرفت أن الترجمة جميلة بينما لم تقرأ النص الأصلي؟»، دخولًا في مناقشات عويصة حول الفرق بين الترجمة الأمينة المحافظة على مادة المؤلف وبين الترجمة المعتمدة على نقل روح النص بتدخل المترجم وقناعاته وما إلى ذلك من خلافات حول مفهوم الترجمة الأدبية. على أي حال، أحببت ما قرأته.

4
كيف تصنع من فكرة بسيطة لا تتجاوز قصة حب ملتهبة بين مغامر وفنان عابر مصادفة على الطريق وامرأة تعيش حياة عائلية تقليدية، عالجتها عشرات وربما مئات الأفلام والروايات الاستهلاكية المتواضعة، كيف تصنع منها رواية رائعة تترك بداخلك أثرًا يقيم شأن الفن الحقيقي؟ ذلك كان السؤال الذي شغلني.
مرة قال لي أحدهم إنه لم تعد هناك فكرة جديدة لتناولها كتابة، لو اعتمد الأدباء على البحث عن فكرة جديدة لتوقف الأدب في العالم منذ سنوات. كل الأفكار كُتبت. الكتابة مستمرة لأن هناك دائمًا كاتبًا جديدًا. الجديد هو أنت عندما تكتب من زاوية نظرك الخاصة مدعومًا بموهبة حقيقية.
منذ البداية، يوحي مؤلف «جسور مقاطعة ماديسون» لقارئه أنه بصدد قصة حقيقية. وهي حيلة واعية بأن ثمة جاذبية خاصة للحكايات حين تكون قد حدثت بالفعل. وهو نجح في هذه المسألة، حتى أنك إن اكتفيت بقراءة الرواية دون أن تقرأ عن المؤلف وأجواء كتابة روايته، قد تتصور أنها حكاية حقيقية فعلًا.
هنا راو يتلقى عرضًا من أخ وأخت، لا يعرفهما، أن يكتب حكاية أمهما مع حبيب عاشت معه أربعة أيام خلسة بينما الأخوان مع والدهما في رحلة. تلك الأيام الأربعة وإن كانت زمن اللقاء، لم تكن زمن قصة الحب، حيث امتدت حتى رحيل كل من الحبيبين، فيما كان الوعد الذي بينهما عدم التواصل للحؤول دون إفشاء السر الكبير حرصًا على الحياة الأسرية للسيدة، وخوفًا من وصمها بالخيانة، وذهاب سيرة زوجها على ألسنة أهل المقاطعة المحافظين في ذلك الزمن.
هكذا، أنت أمام مستوى بسيط للتلقي، حيث ملاذ رومانسي في حكاية عاطفية ملتهبة قوامها ترك الإنسان نفسه للحظة نزق تمنحه تجربة مثيرة شاطحة قادرة على تغيير شكل علاقته بذاته وبالعالم من حوله، وأسئلة مباشرة حول الإخلاص البالغ للحب الحقيقي والتضحية بالمتعة الشخصية من أجل الآخرين وما إلى ذلك. غير أنك، في مستوى أعمق، تجد أنك بصدد قدرة مذهلة للكاتب على ربط قارئه بعالم صنعه وخلق شخصياته ببراعة، بخلفيات وافية مُسلية عن تلك الشخصيات، سواء البطلين باسترسال جميل حول طبيعة النشأة والتكوين النفسي وشكل الحياة التي أنتجت كل منهما، بحيث وصول انسيابي لبديهية أداء كل منهما وتصرفه تجاه ما حدث، أو سواء الشخصيات المحيطة بالحكاية وثقافة مكانها ولحظتها الزمنية، فضلًا عن تعامل رائع مع المكان وتوظيفه كبطل ثالث للحكاية، من ناحية بوصفه وجهة نوعية يقصدها البطل لعمل قصة صحافية مصورة عن تلك الجسور المغطاة العابرة لنهر صغير في مقاطعة بولاية آيوا، ثم بوصف هذا المكان مساحة تصلح تمامًا للمساهمة في تأجيج مشاعر رجل عابر تائه على الطريق، وامرأة أحبها القدر ومنحها لحظة خارج سياق وتيرة أيامها الراكدة، لحظة مثلت بداية جديدة لحياتها، باتت منذ وقتها سيدة غير عادية، تعيش تجربة لا أحد يعرف عنها شيئًا سوى شخص وحيد تعرف أنه موجود في مكان ما على سطح الكوكب، وتتابع أثر السنوات على شكله وجسده بينما تتابع صوره المنشورة بين حين وآخر على غلاف مجلة.
هنا تثبيت لقطعة من الزمن عند لحظة في مكان ما من العالم بكل سماته في هذه اللحظة، بحيث أنك فيما تستمتع بالقراءة الجذابة تتجول بين بشر في زمن آخر وعالم ما كنت لتهتم بأن تقرأ عنه في كتب التاريخ. أنت في رحلة حقيقية تترك شيئًا في روحك وتزيد من معرفتك ببعض من أحوال الدنيا، شأن ما تفعله الكتب والأفلام الجميلة.
يرسل كينكد رفاته إلى فرانشيسكا عبر الهواء المحيط بها، حيث أوصى بحرق جثته ونثر غبارها عند مكان لقائهما الأول والأخير. أخبرها بذلك هاتف من شركة تقوم على تنفيذ الوصايا، وتسليمها طردًا يحتوي مقتنياته، التي ستخبئها مع دفاتر دونت فيها حكايتهما مع رسالة لأولادها تحكي لهما عن العالم الذي شردت فيه كلما اختلت بنفسها مع كأس من البراندي، وتوصيهما بحرق جثتها ونثر غبارها في المكان نفسه.
ربما يشغلك سؤال أخير حول أخوين قررا تخليد حكاية أمهما وحبيبها عبر البحث عن مؤلف ماهر يعطيانه دفاترها ليعالجها في عمل روائي. يمنحانه حكاية مقابل أن يمنح أمهما الخلود.

5
كان ممكنًا ألا تتجاوز قيمة الرواية إرسال دفعة رومانسية عالية إلى حالتك المزاجية، فيما قد يراه القارئ إحدى صور الأدب الاستهلاكي، لولا ما عبرت عنه «واشنطن بوست» بثلاث كلمات اختزلت السر الوحيد للقيمة الفنية في هذه الرواية، وجاء ضمن اقتباسات كثيرة، مما قيل في المشهد النقدي والصحافي العالمي، تصدرت بها النسخة العربية. هذه الكلمات هي: «والر حكّاء مدهش».

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة