المفكر عزيز السيد جاسم يدرس العلاقة المعقدة بين المثالية والمادية

شكيب كاظم

في ضمن مشروع وزارة الثقافة والسياحة والآثار، في إنصاف عديد المفكرين والباحثين والأدباء والشعراء العراقيين، بإعادة طبع كتبهم ومؤلفاتهم ودواوينهم، بعد أن نفدت الطبعات الأولى منها، أو أنها سحبت من أسواق الكتب والوراقين، لأسباب عديدة، سياسية في غالبها، فقد أصدرت الوزارة من خلال دار الشؤون الثقافية العامة ببغداد، وعلى نفقتها دعما للتراث الفكري للمفكر عزيز السيد جاسم، عدداً من كتب الفقيد منها:( محمد. الحقيقة العظمى) الطبعة الرابعة ٢٠٢٠، و( تأملات في الحضارة والاغتراب) الطبعة الثالثة ٢٠٢٠، ورواية (المفتون) الطبعة الثانية ٢٠٢٠، كما وسبق أن نشرت كتابه (متصوفة بغداد) في ضمن إصدارات مشروع بغداد عاصمة الثقافة العربية سنة ٢٠١٣، وكتابه الفكري السجالي المهم (ديالكتيك العلاقة المعقدة بين المثالية والمادية. في الرؤيا والمقدس والمعجز والعقلاني) الطبعة الثانية ٢٠٢٠، وكانت الطبعة الأولى من هذا الكتاب، قد أصدرتها دار النهار ببيروت سنة ١٩٨١.
والكتاب كما يوحي عنوانه، الذي هو ثريا النص ودليل الوصول إلى كنهه، سياحة فكرية واسعة في عوالم الفلسفة، ومناقشة ثرية للعلاقة المعقدة والصعبة بين الفلسفة المثالية، والفلسفة المادية، فضلا عن دراسة العلاقة بين الفلسفات ووقائع الحياة، ففي الوقت الذي تأتي فيه الفلسفة مدججة بالرأي الأحادي إزاء قضايا الحياة الزاخرة بالمتناقضات الشديدة، لأنها في الأصل إنبثاقة التناقض، وهي تتجوهر وتتجدد في التناقض، لأن أمور الحياة لا تخضع ولا يمكن أن تخضع للتحديد، غير أن الفلسفة بما تعطيه لنفسها من كمال وإطلاق وأحادية، وادعائها أنها تمتلك إجابات شافية عن أسئلة الحياة كلها، تتجاوز على الحياة في اقانيمها المتحركة المتناقضة، فمن وجهة نظر ماركسية- مثلا- يعد أي يقين فكري في الاغتراب الكوني انهزامية أو رجعية نكوصية، أو موقفا يخدم طاغوت رأس المال! في حين أن الاغتراب بأشكاله المتعددة، الاغتراب المكاني، أو الزماني، أو الفكري.. أمر من صلب الحياة.
يتساءل المفكر العراقي الشاهق- وإطلاق الأسئلة دليل حيوية العقل وسعة النظر، بعيداً عن شرنقة الأدلجة وكهفها المعتم- يتساءل عزيز السيد جاسم، هل ثمة جدلية علمية أم جدليات مادية ومثالية؟ مؤكدا أن التناقض الجوهري بين (الماركسية) و(والهيجلية) يتعلق بـ(الجدل) بشكل خاص ومتميز، موضحاً أن الماركسية تنطق بأولية (هيجل) في اكتشاف القوانين الجدلية وعبقريته، ولكن الماركسية وهي تبني للجدل صورة أخرى- مادية وليست مثالية- لم تقدم بمنطق واحد ومتماسك، البديل الكامل والواضح للجدل الهيجلي، بناء على المعطيات الأولى والصحيحة لهيجل في الجدل. تنظر.ص.٣١
إن الفيلسوف الحقيقي كما يقول السيد، هو جدلي، فالجدل هو الحياة، وإذ نأتي إلى المريدين لأية فلسفة وفكر ومنهج في الحياة، والسيد يسميهم (الأشياع)، فإنهم غالباً يعانون النظرة الأحادية المتعصبة للأشياء، يحنطون الفيلسوف بعد قتله، لهذا قال ماركس: إنه ليس ماركسياً، لا بل قرأت في دراسة أنه عجب أن يظهر مثل هذا المصطلح (ماركسي) للدلالة على أفكاره وآرائه، أما لنين فقد أكد أنه مضى على صدور الأفكار الماركسية نحو نصف قرن، ولم يفهم ماركس واحد من الماركسيين!
إن عدم إيلاء المادية الماركسية، أهمية للعوامل الروحية في بناء المجتمعات، وحتى قيادة التغييرات الهائلة في حياة البشرية، التي جاءت بها الأديان- مثلا- شاطبة على الظواهر الإعجازية فيها، التي تتجلى في بعض الأفراد أو القادة، عادة ذلك سحرا وشعوذة وجهالة، حتى أنها ظلت تنكر زمنا طويلا، ظاهرة التخاطر عن بعد، وهو المعروف بعلم (الباراسيكولوجي) واستخدمه الغرب منذ عقود واستفاد منه، وأخيراً أذعنت للاعتراف به واستخدامه في مواجهة الغرب وتدخلاته في شؤون الدولة السوفيتية والتجسس عليها.
إن تقديم تفسير بسيط لأمور معقدة في الحياة، بل نكرانها، يشبه اللجوء إلى نظرية المؤامرة التي تشغف بها الكيانات والشعوب التي لا تريد تحريك عقلها، ودراسة الأسباب وصولا إلى النتائج والحلول، كذلك فإن نكران الجانب الروحي في الحياة، يجعل الفكر يسير على قدم واحدة، وإلا كيف نفسر ظواهر عصية على الفهم والإدراك والعقل، وظاهرة (راسبوتين) أواخر أيام القياصرة الروس منها؟ كان يمتلك قدرات هائلة على الإشفاء والسيطرة على الآخرين عبر عينين يشع منهما بريق ساحر عجيب، ولدينا في العراق ظاهرة (السيد مالك الياسري) و(السيد سروط)- رحمهما الله- حتى أني لا أستطيع نقل نظري ليواجه عينيه، حتى في الصور، للبريق المذهل الذي يشع من عينيه!
وإذ لا يمكن بناء نظام سياسي بالسحر، ولا يمكن فهم حقيقة أي نظام سياسي بدون فهم قاعدته الاجتماعية ومصالحه المادية وأطروحاته الفكرية، وذلك ما ينسجم مع التفكير المادي التاريخي، ولكن القول بأن من غير الممكن بناء نظام سياسي بالسحر، لا يعني أن السحر لا وجود له، وهم، خرافة، شعوذة. وان القول: لا يمكن فهم حقيقة أي نظام سياسي بدون فهم قاعدته الاجتماعية ومصالحه المادية وأطروحاته الفكرية، لا ينكر أن ثمة عوامل روحية أو شخصية أو عائلية أو ذهنية قد تؤثر على طبيعة نظام بأكمله لمرحلة معينة أو لظرف محدد».تنظر.ص.٦٢
ويظل السيد يرود في كتابه الفكري الجدلي العلمي هذا، يرود ويرتاد آفاقا عدة في ظواهر الكون والطبيعة والعلوم، مناقشا مسألة المادية التاريخية وميكانيكية التعليل واقفاً عند المثال الإسلامي، والطريق الآسيوي في الإنتاج، والمعجز والخارق في الفكر والممارسة، ومساحة الخرافة ومجالات العلم وأين تقف حدود الخرافة؟ إذ دأبت بعض الأفكار العلمية المتطرفة ( بإسم العقل) على إعطاء مفهوم عن الخرافة أكثر سعة وشمولية، بحيث تمتد الخرافة من الأوهام والسحر لتصل إلى الديانات كافة، وتضم في طيات موضوع الخرافة، كل ما هو روحاني أو يتصل بالروح من قريب أو بعيد مشيرا إلى أن المنهج المادي التاريخي في نظرته للأديان، هو شكل من أشكال النسف تمارسه الفلسفة على العلم.ص١٧٢
ثم يدرس المفكر عزيز السيد جاسم، عالم الأحلام الذي كثر فيه الجدل والنقاش منذ أقدم الأزمنة، منذ أيام ابن سيرين وابن خلدون، مروراً بالدكتور علي الوردي وكتابه الريادي ( الأحلام بين العلم والعقيدة) الصادرة طبعته الأولى في بغداد سنة ١٩٥٩وهو من الكتب التي أثارت حفيظة العوام، وليقف السيد عند مقولة ابن خلدون بشأن الأحلام ( الرؤيا مدرك من مدارك الغيب) ،التي يصعب تفسيرها، وأراها من الأسرار الإلهية في الخلق، قد لا يتأتى فهمه وسبر غوره إلا للخاصة ممن وهبوا عقلا هيولانياً سديمياً سبرانياً، مؤكداً أن جناية الميتافيزيقيا على العلم أنها حاولت أن تسد الأبواب بوجهه، كما أن جناية العلم على الميتافزيقيا أنه أسلم كل ما لم يتوصل لتعليله وإدراك هويته ومؤثراته إلى الخرافة!ص١٧٧
وأخيراً نصل إلى مبحث التصوف والحد الفاصل في العلاقة الصعبة بين المادي والمثالي، حيث أنكرت العلوم، ولاسيما النظرة المادية للحياة، كل ما هو خارج المحسوس والملموس، واقفا عند ظاهرة الوجد والذوب في الذات الإلهية، حتى ليكاد الجسد ينسلخ عن كل المحسوسات، وتلك من الرياضات الروحية العسيرة على الفهم والإدراك، فضلا عن عسرها في التطبيق والمجاهدة، مجاهدة الجسد كي يسمو ويتألق ويعلو، حتى ما يعود يحس بما يفعله الجلادون في جسده، ومنها ظاهرة أبو الحسين منصور الحلاج المقتول سنة ٣٠٩ ه‍ ببغداد فضلا عن السهروردي المقتول هو الآخر في حلب سنة ٥٨٦ أو ٥٨٨ه‍ وما ضاربو أجسادهم بالسيوف والخناجر (الدرباشة) سوى الدليل على الذوب والمجاهدة الروحية وترويض الجسد.
لقد أخذ مني هذا الكتاب وقتا طويلا، سلخ مني أسبوعا-وهو وقت طويل إذا ما قيس بالعمر البشري القصير- وأنا أجوس خلاله وخلله، قارئاً مضامينه الفكرية والفلسفية، قارئا بعض فقراته مرة وثانية وربتما ثالثة، كي نصل إلى كنه النص الذي لا يتيسر فهمه، وهذا دليل واضح على عمق ثقافة هذا الرجل المفكر، وقراءاته الواسعة في المظان والمراجع والمصادر.

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة