هدى الهرمي
لا تستأثر الرواية بالابداع وإنمّا هي فرع مُهمّ من شجرة الأدب المُتجذّرة من الفنّ فكانت احدى روافده المُهمّة والمُعتمدة على الحبر، لينصاع للسرد والوصف وذلك الصراع القائم بين الشخصيات، وهي تعتمد على قواعد فنية تجعلها مُنفردة في صيغة الابداع ومختلفة عن سائر الفنون الأخرى.
بينما تُعدّ السينما نوع من الفنون القائمة على الصورة و الصوت، و يتميّز بتقنيات و سمات عديدة جعلته يستحوذ على الابداع المرئي، بشكل ماتع في طرحه لمواضيع معرفية و وثائقية لا تخلو من التأثير، و ربما هو محاولة ناجحة أيضا للموازنة بين القضايا الانسانية و مهمّته الفنية و المبهرة بشكل بصري، و لكن من خلال تلك الجدليّة القائمة بينه و بين الرواية، التي طالما تناولت الواقع الانساني بكل ابعاده و تجلياته لكن بنتف من الخيال و هو امر مثير و جذاب لرصد هذا الاقتباس الذي ظلّ مُفتعلا لاقتحام عوالم الرواية و البحث في عمق شخصياتها و هواجسهم التي تختال بين الوهم و الحقيقة و الامل و الالم …فهل يمكننا استنادا لهاته الجدلية ان نُعزّز قيمة السينما و تقنياته المرئية في الولوج الى اغوار الرواية بنجاح، و اضفاء المزيد من الابهار للعمل الادبي بصناعة عملاقة تُوّسع امداء الرواية دون تشويه او اسفاف في حق الابداع و مصادرة لجهود الكاتب ؟
يُعدّ عصرنا الحالي عصر ثقافة الصورة بامتياز، حيث اجتاحت الوسائل المرئية بؤرة التلقّي، بل و جلبت اليها انماط حديثة لاستقطاب فضاءات الدهشة من خلال فرض سلطتها على عديد المجالات الابداعية و الفنية، لتتنامى صناعة الصورة و الصوت بعد الافلام الصامتة التي رُجمت بالحوار، و خلال مائة سنة قدّمت السينما اهم عمالقة الادب و خاضت تجربة الاقتباس لروايات عالمية، كما تخلّصت من تقنياتها الكلاسكية من خلال التشاكل الزماني و المكاني مما اكسبها عمقا ملحوظا و رونقا اخر شجع المخرجين السينمائيين على صناعة مُستقلّة، فقدّمت لجمهورها العريض مأدبة مرئية و ساهمت بشكل او باخر في انتشار هذه الروايات المُلهمة لها.
و الجليّ أنّ السينما، استطاعت جذب جمهور عريض من قُراء الادب بعد ان انحازت الى العمل الروائي و احدثت ذلك التوافق و الانسجام، مع اضافة لمسات تقنية و حبكة درامية، ساهمت في نجاح العديد من الافلام فتوهّجت النصوص الروائيّة لتُضفي عليها جودة و سحرا و شاعريّة، و لعلّ رواية
«التيتانيك» التي ظلت مغمورة لفترة، لكن النجاح الخُرافي للفيلم أهله لدخول قاموس غينيس للارقام القياسية بحصوله على 11 اوسكار.
و من الاعمال الروائية التي قدمتها السينما بصيغة مرئية مبهرة و عَرّفت بمؤلفيها، رواية « العطر « لباتريك روسكنيد ، اضافة الى العديد من الروايات التي منحتها شهرة و عمقا و جدية في المعالجة الدرامية رغم ضعف حبكتها الفنية و الشكلية منها رواية « الحب في زمن الكوليرا « لغابريال غارسيا ماركيز و « شفرة دافنشي» لدان براون.
و تماشيا مع ما عرفته السينما العالمية من تنامي ظاهرة اقتباس الاعمال الروائية و تحويلها الى افلام، فقد اكتسحت ايضا العالم العربي و أثرّت بصفة ملحوظة على السينما العربية، ممّا فسح المجال لها ان تُوّطد علاقتها بالجمهور العريض و تعرف نُقلة نوعية مثل فيلم «دعاء الكروان» لطه حسين و «الرباط المقدس» لتوفيق الحكيم و « الارض « لعبد الرحمان الشرقاوي.
و رغم الاختلاف الجوهري بين الادب و السينما من حيث البنية الفنية و اسلوب التلقي، فقد كانت العلاقة بينهما على غاية من العمق و الاثراء، مما جعل السينما خير مجال يُعتمد عليه في سبيل انتشار الكاتب بقطع النظر عن الترجمة الى عديد اللغات الاجنبية، و اضحى اقتباس العمل الروائي واحد من اقصى ما يمكن ان يطمح اليه اي كاتب للحصول على اكبر قاعدة شعبية تضمن لاعماله البقاء و الرسوخ.
و لعل نجيب محفوظ هو اكثر من حُظي بهذا التوهّج الاستثنائي في السينما العربية، من خلال مجموعة من الروايات التي تحولت الى افلام و اقتحمت وعي الآخر المتلقي البسيط، لترتقي الى مصاف الاثار الفنية و الانسانية الخالدة الى يومنا هذا.
فهو يُعدّ من عمالقة الروائيين في العالم العربي ، و أول كاتب عربي حاز جائزة نوبل للاداب، و اضافت اعماله الى السينما المصرية الكثير من العمق بمحاكاتها للواقع لتُخلّف بصمة مُؤثرة في القرن الماضي، و ساهمت بشكل او بآخر في انتشار رواياته الملهمة لدى شريحة هامة من القراء.
من اهم اعماله الروائية التي تحولت الى افلام رواية « اللص و الكلاب « و « زقاق المدق» التي ظلت محفوفة بالابهار و ذلك التأثير المتوّج بروعة الاقتباس .
امّا السينما البوليوودية فهي لا تخلو من الاقتباس ايضا، فقد حوّل المخرج سانجاي رواية «ديفداس» الشهيرة الى فيلم، و هي للروائي و القاص البنغالي سارات تشاندرا، و قد تباينت طريقة المعالجة و الطرح لكنها في النهاية جسّدت روح الرواية و بقيت ناقلا أمينا لها، مُضيفا عظمة بصريّة و حبكة درامية هائلة. و يُعدّ هذا العمل نسخة ثالثة و حديثة بعد ثمانية عقود ليصبح مدخلا مرئيا، تطرّق الى حال الهند في بداية القرن العشرين ، و بمستوى تقني مُتطور و استعمال هائل للمؤثرات الخاصة، و المُلاحظ ان سانجاي برع في الحفاظ على التشويق مع الحرص على امانة نقل سير الاحداث في الرواية، و استحدث بذلك حركة وطنية حداثية
في الادب الهندي، و كانت مناسبة لاستحضار الشخصية المَنسيّة الى حيز الوجود مرة اخرى.
لكن لنا ان نتساءل عن اشياء كثيرة قد تتعرّض اليها الرواية من خلال اقتباسها و تطويع الحبر الى مشهد مرئي، و في هذا الاطار يرى الروائي الايطالي البرتو موزافيا ان الرواية قد تتعرض فيها اشياء للحذف و الاقصاء عندما تتحوّل الى فيلم، لان للسينما حدود و هي تستطيع ايضا ان تنجز اشياء رائعة و مُدهشة لا يستطيعها الأدب من اجل انشاء واقع جديد تماما.
اما الفيلسوف و الروائي الايطالي أمبرتو ايكو فهو يقول « ليس سهلا دائما التعبير في الفيلم عن أشياء موصوفة على الورق ، أشياء سوف يفهمها القارىء آليا» .
لذلك لا تخلو بعض الاعمال السينمائية من تشويه للرواية فنيا و ادبيا و لعل «ذاكرة الجسد» لكاتبتها احلام مستغانمي خير مثال على ذلك اضافة الى رواية « العجوز و البحر» لأرنست
همنغواي و الحاصلة على جائزة نوبل للأدب حتى انه حين شاهد الفيلم خرج قبل نهايته صارخا في الظلام « ليست هذه قصتي «.
و من جانب اخر تُعبر صناعة الافلام الروائية تجارة مُربحة و استثمار جيد للارباح و جني اهتمام النقاد مع حصد الجوائز العالمية، اذ تجاوزت مَبيعات افلام الروائي ستيفن كينغ و هو اشهر كاتب رعب 350 مليون نسخة و بلغت اعماله المُستوحاة من عوالمه الروائية و المُقتبسة ما يقارب 214 عملا متنوعا بين افلام قصيرة و طويلة، و يكفي القول ان هناك ما يقارب 25 عمل سينمائي و تلفزيوني مُقتبس من رواياته جاري اعدادهم للعامين القادمين.
اما أجاثا كريستي فهي تُعدّ اعظم كاتبة للروايات البولسية حتى الآن ، و قُدرت مبيعاتها اكثر من مليار نسخة من رواياتها، لتتصدّر الافلام المُقتبسة من رواياتها شبابيك التذاكر في قاعات عالمية.
ان الكُلّ يَجزم ان المستقبل للصورة المرئية و ان العمل السينمائي اصبح مُنفتحا اكثر، و مُكتسحا بقوّة لوجدان المُتلّقي المثقف و العادي على حدّ السواء، و هذا في حدّ ذاته رهان للرواية و ربما مخاطرة، لكن يظلّ الحسم للكاتب فيما يراه جديرا بابداعه دون الوقوع تحت طائل قانون العرض و الطلب.
و بدون الحكم على تجارب العديد فاننا نعيش اليوم على وقع السينما كمساحة جذب لنصوص و شخصيات أدبية في كامل اصقاع العالم، و حسب كلود موريال و هو الذي يُعتبر من أهم كُتاب السينما و مُنظّريها « ان السينما تتمتع بأكثر الوسائل اقناعا في اقتناص الشاعري اولا لانها لا تُجمّده.
و في خضم الائتلاف و الاختلاف، أيّ مستقبل للرواية بعد ان تنامت صناعة الصورة بشكل مُتطور و ذو نسق سريع، في ظلّ نزعة استهلاكيّة نحو اقتحام كل ما هو مرئي و مُريح مقابل عالم الكتب الشّاق الذي يُكابد في عصر هذا الانفتاح البصري الشاسع .