علي كريم إذهيب
ظاهرة تواجد أطفال في المقابر تعد «طبيعية» نتيجة ما شهده العراق من حروب وصراعات طائفية أدت إلى تهجير الآلاف وفقدانهم الأمان.
في مقبرة «وادي السلام» في محافظة النجف، وهي من محافظات الفرات الأوسط تتآخى الطفولة مع الموت. هنا في المقبرة التي تعدّ من أكبر مقابر العالم من حيث المساحة وعدد القبور، تعثر على أطفال كثيرين ينتشرون هناك، وتتراوح أعمارهم ما بين 6 و12 سنة. يبيعون الزهور والماء والبخور وغيرها من مستلزمات قد يشتريها زوار القبور لمؤانسة موتاهم وتكريمهم وتبريكهم.
ومن لم يزر المقبرة من قبل، أو مرّ وقت طويل على زيارته الأخيرة إلى هناك، وضاع فيها بعد تغيّر ملامحها وتوسّعها مع الزمن، يستطيع أن يستعين ببعض الأطفال الذين يعملون كـ»أدوات استدلال» على القبور مقابل 1000 دينار عراقي (70 سنتاً أميركياً).
لجأ الطفل مهيمن ذو العشر سنوات للعمل في المقبرة بائعاً لماء الورد والبخور بعدما ترك تعليمه الابتدائي، ويسكن داراً مستأجرة ببدل نقدي قدره 250 ألف دينار عراقي (172 دولاراً أميركياً) ومن هنا يقول «والدي يعاني من شلل نصفي لا يقوى على الحركة والسير، وبما أنني المعيل الوحيد لعائلتي اضطررت للعمل في سن مبكرة بمردود نقدي يومي يصل إلى 7000 دينار عراقي (5 دولارات أميركية). أعمل كل يوم من الفجر حتى الغروب».
أما الطفل اليتيم حسن (10 سنوات أيضاً)، فمع الوقت أصبح يشعر بألفة مع منظر ﺍﻟﻤﻘﺎﺑﺮ التي اعتاد أن يكون بينها باﺳﺘﻤﺮﺍﺭ ويشعر بشيء ﻣﻦ الوحشة ﺣﻴﻦ يذهب إلى أماكن أﺧﺮى، حيث يعمل ﻓﻲ ﺍلأﻋﻴﺎﺩ ﻭﺍﻟﻤﻨﺎﺳﺒﺎﺕ ببيع البخور وماء ﺍﻟﻮﺭﺩ. أما ﻓﻲ الأﻳﺎﻡ ﺍﻻﻋﺘﻴﺎﺩﻳﺔ فيعكف على ﺟﻤﻊ العلب ﺍﻟﻔﺎﺭﻏﺔ المرمية بين القبور ويبيعها لمستودعات الخردة.
ﻳﺤﺎﻭﻝ حسن أﻥ يكون ﻗﺮﻳﺒﺎً ﺑﺎﺳﺘﻤﺮﺍﺭ ﻣﻦ أﺧﺘﻪ نور ﺍﻟﺘﻲ بلغت عامها السابع، وتحمل كيساً يفوق وزنها ﻭﺗﻬﺮﻭﻝ ﺧﻠﻒ أﺧﻴﻬﺎ ﻭﻫﻮ ﻳﺘﻨﻘﻞ ﺑﻴﻦ ﺳﻴﺎﺭﺍﺕ ﺍﻟﺰﻭﺍﺭ. في الجهة المقابلة، تفترش طفلة صغيرة الأرض وتبيع ماء الورد لزوّار الأضرحة. عمرها 8 سنوات، واسمها فاطمة. تحاول أن تكسب رزقها و»تعتاش» من أكثر الأماكن التي يسكنها الموت. عند التحدث معها يتبين أنها يتيمة الأم وزوجة أبيها تجبرها على هذا العمل.
جعفر العلوي الكاتب والباحث الاجتماعي يشير إلى أن ظاهرة انتشار الأطفال في مقبرة وادي السلام ليست جديدة، «ولو تتبعنا مصدرها سنجد أن أغلب هؤلاء الأطفال هم من الوافدين إلى المدينة، والذين يسكنون في العشوائيات، فيؤدي بهم العوز وعدم توفر أبسط ظروف الحياة الكريمة، إلى اللجوء إلى المقابر». وهي ظاهرة يصفها العلوي بـ»طبيعية» نتيجة ما شهده العراق من حروب وصراعات طائفية أدت إلى تهجير الآلاف وفقدانهم الأمان.
يسكن في المقبرة ما يقارب 100 عائلة، يعيش أفرادها تحت خط ﺍﻟﻔﻘر فيما تقدّر أعداد الأطفال الذين يعملون في المقبرة بحدود 200 طفل، أعمارهم تتراوح بين 6 و12 سنة.
منظمات المجتمع المدني تضطلع بمسؤولية كبيرة في هذا المجال، وتؤكد هيلين يوسف الاشوري الناشطة في مجال حقوق الطفل أنه لا يمكن لهؤلاء الأطفال ان يكون لهم مستقبل وهم يعيشون طفولة بائسة بين المقابر حيث لا سقف يأويهم، ولا مدارس تعلّمهم، فيبقون فقراء مدفونين في الجهل. تسأل الأشوري: «في العراق الكثير من أبنائه الذين ينادون بالتطور فأين التطور من هؤلاء المشردين؟ أتمنى على هؤلاء أن يقارنوا أطفال أوروبا بهؤلاء الساكنين في القبور وستعرفون أين نحن من التطور». وتستغرب الاشوري انعدام الرحمة لدى المسؤولين عن الشؤون الاجتماعية ورعاية الأطفال في العراق.
رئيسة مركز «فيكتوريا» للتدريب والتطوير والناشطة في حقوق المرأة والطفل زينب العلوي تشارك الأشوري قلقها. وتحاول تحديد المسؤوليات: |»أين دور الحكومة المركزية السابقة والحالية الذي لم يكن جاداً وفعالاً؟ وأين تطبيق القوانين التي لا تزال حبراً على ورق في ما يخص الأطفال وعمالتهم؟». تسأل ثم تجيب نفسها: «هذه قوانين شكلية فقط ولم تقدم للأطفال المشردين أي حلول عملية».
تصف العلوي الدور الحكومي بأنه كان عبارة عن مؤتمرات تنظيرية مع منظمات دولية لا تتماشى مع واقعنا المرير. وتقول إن جمعيتها وجمعيات أخرى راجعت وخاطبت عبر رسائل الدوائر المعنية وخصوصاً وزارتي العمل والشؤون الاجتماعية، لوضع حد لظاهرة عمل الأطفال في المقابر وحتى الآن لا ردّ ولم يُتّخذ أي إجراء عملي.
ولا تعفي العلوي أياً من الوزارات الأخرى مثل التربية والداخلية والصحة من المسؤولية في حل هذه الأزمة المجتمعية الخطيرة، لكي لا تبقى الحلول المفترضة “حبراً على ورق”، مطالبة بدعم مشاريع واقعية تتماشى وحجم المشكلة، خصوصاً لجهة إنقاذ هؤلاء الأطفال عبر تعليمهم وإكسابهم حرفاً تنقذهم من الموت اليومي بين المقابر.
عن موقع درج