د.سمير الخليل
ــ هذه قراءة منصتة لمجموعة الشاعر ياسين طه حافظ الجديدة (مخاطبات الدرويش البغدادي) الصادرة عن دار المدى لعام 2014 ، ولعلها عملية إنصات متلبثة، تتماهى مع مخاطباته التي تأخذ طابع النتاج الشعري المقروء (المهموس) في إيقاعه ، وبنيته اللغوية ، وإشراقاته الروحية المفعمة بالوجد الصوفي ، مما يفرض تلقيا منصتا لما بين السطور من أنساق معرفية يتفاعل فيها الموروث الصوفي الشرقي المغرق بالوجد مع المعطى الإنساني العالمي..
تبدو التجربة الإنسانية واضحة منذ العنوان (مخاطبات الدرويش البغدادي) ، ففيه من المحددات ما يسمح بتلمس ملامح طريق التجريب الذي سلكه الشاعر ، ومن الدلالات ما يشير الى ما سنجد على السطور ، فضلا عن ما عرفناه عن تجربة الشاعر السابقة ..
فهو يشير بمفردة (مخاطبات) الى دلالات النص الكلاسيكي الذي نعرفه بما فيه من إيقاع خارجي ، وهرم صوري ينتمي الى القصيدة العربية التي تحمل رسالة واضحة المعالم في مخاطبتها ، تصل الى المباشرة أحيانا ، رغم ما دخل عليها من تحديث ، وتشفير حملته نصوص التفعيلة التي صاحبت تجربة الشاعر ومجايليه ، ومعاصرتهم لحقبة استلهمت الأسطورة وأسقطتها على الواقع ، واستخدمتها ، في بعض الأحيان ، في مهمة تشفير يمتد بين الاستخدام الاسطوري والواقع ..
أما بقية العنوان ، فهو يضع المنصت أمام لوحة واقعية تعبر عنها تجربة المدونة ، من خلال توصيفه النصي للمُرسِل ، وملامح بيئته بكل ما تحمل من عبق المكان وميزات نصوصه ، فنحن هنا أمام (درويش) بكل دلالاته الصوفية ، وهو (بغدادي) يحمل سحر الشرق وحكايات دراويشه ومغامراتهم في البوح الشعري ، وتجربتهم الروحية ، بما تحمل معها من قاموس اصطلاحي محدد المباني ، ينفتح على أفق لا متناه من المعاني ، التي تحاكي المخاطب واجب الوجود ، اللامتناهي في الآفاق وفي النفس ..
من هكذا توصيف في العنوان تنطلق تجربة ياسين طه حافظ في مخاطبات الدرويش البغدادي لتنثر 140 نصا ، على مدى 165 صفحة من القطع المتوسط ، مكتنزة بشعرية كثيفة تركز على المحتوى الانساني من تجربة التصوف ، مبتعدة عن البهرج اللغوي الذي عرف عن أدب المتصوفة ، فهي أقرب الى السوناتات التي تحمل موسيقى الحرف وتأثير المعنى وتشتيت انتباه المتلقي عن فخامة البناء اللغوي ، المفقودة من النص قصديا ، فيقول في المقطع رقم 120 :
الحب قال لي : اغترف
من نشوتي ومت بها
ولا تزغ عيناك ابق ها هنا!
لكنني لمحت (صيدا) فالتفتُّ ،
اصطدم القدح
ظلت يدي تمسك بالفراغ
عيناي لا تصدقان أن الكأس
تناثرت
وأنني خسرتها !
فالشاعر استخدم الحب هنا بديلا لصوت الإيمان الداخلي تماما ، مما جعل الحب وجها من وجوه الرب المتعالي الذي يأمر بالاغتراف من نشوة الوجد والوله ، ويوصي بقمع الغرائز الأخرى ، أما الشاعر المتصوف فعلى الرغم من وقوفه امام نجوى العفة ، فهو يلتفت الى الـ (صيد) أو ما تصطاده الغريزة ، بدلالة أن هذا الصيد أربكه فاصطدم ، وصدم المتلقي معه من خلال تناقض استخدامه كلمة القدح (وليس الكأس) كما هو متوقع ممن اغترف وأتم فعل الاغتراف ، والصدمة تتأتى هنا من تأخير التفسير لهذا التناقض فيوغل في التناقض (ظلت يدي تمسك بالفراغ) ، ثم يفسر بعدها بأن الكأس تناثرت ، ويترك المتلقي أمام تعدد التأويل فهل تناثر محتوى الكأس أم الكأس بمادتها ؟ ، لينهي المقطع بخسارته للكأس والنشوة التي اغترفها ..
أما الصورة الشعرية في الجملتين (اصطدم القدح / ظلت يدي تمسك في الفراغ) فهي تحيلنا الى متصوف الخمريات الذي يقول :
رق الزجاج وراقت الخمر فتشابها ، وتشاكل الأمر
فكأنما خمر ولا قدح وكأنما قدح ولا خمر
وهكذا تستمر التجربة الصوفية لحافظ في مجموعته هذه متماهية مع الموروث الصوفي البغدادي الثر الذي يعبر عن نفسه بين السطور ، حاملا التقاطات مهمة ظلت عالقة في الذاكرة التاريخية كمقولة الحلاج الشهيرة (ما تحت الجبة إلا الله وأنا) ، حيث يقول حافظ في المقطع رقم 119 :
لغات شتى ، أديان شتى ، مهن وشكول
كلٌ ، وإن اختلفت هذي الألوان ،
يحمل تحت الجلد خسارته
ــ فهو من خلال نسق كلاسيكي يعبر عن شعريته باستخدام المبالغة ، فيجعل من الجلد بديلا للجبة ، كما يجعل من خسارته بديلا لشعور الحلاج بالربح والتفوق (قيميا) ، وربما أوغل أكثر ليقارن بين تصوفين ، وزمنين ، ونتيجتين متناقضتين ، من خلال كلمة (الخسارة) التي تتكرر عنده بنصها مرة ، وبمرادفاتها الشعورية مرات ، وتلك مقاربة فكرية ذات دلالة غاية في الأهمية ، يعيش الشاعر من خلالها الصراع الذي عاشه أسلافه في المدينة ذاتها ، وصلبوا من أجله ، ذلك الصلب الذي يعيشه هو خسارة أو انكسار أو خيبة ..
تميز بناء النصوص في مجموعة (مخاطبات الدرويش البغدادي) بالسلاسة ، وبساطة المفردة وعمقها ، أما الهرم الصوري فقد أتى غالبا عن طريق السرد ، فأكثر النصوص كانت مونولوجات داخلية للراوي العليم يكاد الإيقاع فيها يكون مهموسا ، وقريبا من الجملة النثرية ، وكأن بالشاعر توقا للإنفلات من قيد العروض ، انفلاتا متساوقا مع الحرية الروحية التي يمنحها له الوجد الصوفي ، وهو يرى في نفسه وصيا على إرث أدبي خلفه الآلاف من شهداء الوجد الصوفي الذين رفعوا راية المحبة والعزلة بعيدا عن واقع مترد ..
أما المكان في هذه المخاطبات ، فكان مؤثثا بالكؤوس ، ومزدحما بأناس بلا ملامح ، حيث يسهب الشاعر في ذكر مهنهم التي تمنح المتلقي حرية تصورهم وفق وجودهم في مجاميع بشرية تشكل مجتمعا مصغرا يراه الشاعر في محطات حواراته الداخلية ، ولكنه في العموم مكان يحمل مشتركات الأماكن التي امتلأت بها حكايات التاريخ الشفاهي الأسطوري لعاصمة السندباد بغداد ، أكثر منها عاصمة لخلافة أو امبراطورية ..
أما المرأة في هذه المخاطبات ، فلم تنل من الغزل إلا ما يسمح به بوح درويش عابر ، يمر بها كأداة من الأدوات المكملة للحوار ، فقد كان التصوف ذكوريا في هذه المجموعة ، على الرغم من أن موروث التصوف حافل بنساء كن أعمدة في صرح التصوف البغدادي ، ولا يؤخذ هذا على الشاعر إلا بقدر ما يؤخذ على كل التيار الصوفي المعاصر الذي تراجع فيه حضور المرأة ، كما تراجع حضورها في النص ، فهو يقول في المقطع 101 من مخاطباته :
سيدتي كانت صدفه
ورأيتك . كانت صدفه
وجلست بقربك ، كانت صدفه
وثملت بخمرتك العذبةِ ،
كانت صدفه
وأنا منذ ثملت بذاك اليوم الغائم
حتى الساعة سكرانُ ولا أدري،
فإذا استيقظت ، وهذا ما لا يعقل ،
قولي صدفه !
ــ فهي امرأة الصدفة التي تأتي مع الغيم والثمالة وغياب اليقظة ، وتمنح أنوثتها (خمرتها) صدفة ، أو المرأة المهجورة التي سرعان ما تصبح من الماضي في نهاية النص عند انتهاء مهمتها في إدارة الحوار الداخلي للرجل ، كما يقول الشاعر في المقطع رقم 100:
يا أنت ، قل لي أيّةُ الأخبار
وأيّما لقاءٍ ، أيّما هذا الحديث السار
نحن نراك توقد الشموع والأنوار
فأي حفلٍ أنت في أفراحه ؟
يا سادتي ، حبيبي
كان هنا وباحَ بالأسرار
يخطو الشاعر ياسين طه حافظ في مجموعته هذه ، خطى واسعة في محاولات التجريب الكثيرة التي خاضها في مغامرة جمالية امتدت على مدى 35 مؤلفا في الشعر والترجمة ، من خلال خوض غمار التجديد في بناء النص ، وتكثيف الشعرية ، ومحاكاة المعطى الجمالي الانساني المعاصر ، من منطلق الموروث البغدادي الموغل في القدم والجمال ، فهو يحاول الإمساك بأكثر من موشور ليخلق تكوينا بديعا من طيف شعري أخاذ ، وآخر بديل يحول فيه البوح الداخلي تجاه الواقع ، الى أغنية تضرب على وتر المشاعر أكثر مما تضرب على دف الدرويش ..