د. نادية هناوي
أن تكتب نصاً تجمع فيه الزمن بأبعاده المختلفة في لحظة هي الزمن كله، فذلك يعني أنك تعي أن الحياة هي السرد حركة وإبطاء، امتدادا وتعاقبا، اختزالا واستفاضة. وما من نص يمسك باللحظة الحياتية بصورة قصدية وعلى نية الكتابة السردية إلا له قالب القصة القصيرة الذي ميزته التكثيف والاختزال.. لكن ما بالنا بنص يمسك باللحظة سردياً من دون قصدية الكتابة السردية وإنما بقصدية ميتافيزيقية هي أشبه بحلم يقظة أو طيف خيال أو رؤيا منام، لا يكون بعده سوى اللااحساس بالزمن والعيش في هلامية زمانية لعلها الأبدية ؟!.
من المؤكد أن ليس كل نص يُكتب يستوجب منا أن نعده أدبيا ثم نبحث له عن قالب إجناسي معين، محاولين أن نصنّفه في خانة من خانات التجنيس السردي أو الشعري، كون الأمر يخضع لمواضعات فنية وموضوعية. وفي مقدمتها النص نفسه ومدى قربه أو بعده فنيا من هذا القالب أو ذاك، ومنها باث وقصدية حضوره في النص ومنها القارئ وطبيعة الوظيفة التي عليه تأديتها.
وإذا وضعنا في بالنا عناصر ثلاثة أخرى بها تكتمل عملية التوصيل الابلاغي وأعني بها السنن التي هي اعتبارات مشتركة بين الباث والقارئ ثم قناة التوصيل التي هي وسيلة بها يتلاقى النص والقارئ ثم السياق الذي هو مرجعية الباث في النص؛ فإن أي فقدان لواحد من هذه العناصر سيكون فيصلا في انتفاء الأدبية عن النص وعدم مشروعية أن نفكر فيه نصا أدبيا، لأنه في الحقيقة نص فاقد مقومات التجنيس كلا أو بعضا أي غير مجنس.
وما بين النص المجنس والنص غير المجنس مسافة كبيرة حتى إن كانا للباث نفسه، ذلك أن أساس التجنيس هو القصدية التي تجعل العناصر أعلاه حاضرة في ذهن الباث وعندها يكون النص قابلا لأن يقولب في واحد من الاجناس المتواضع عليها في النظرية الأدبية.
أما إذا كان أحد العناصر غائبا والباث لا قصدية له في غيابها أو حضورها فذلك يعني أن النص المكتوب هو نص الباث نفسه بمعنى أنه كتبه على نية اللا تخصيص واللا قولبة واللا تصنيف..وإنما هي الكتابة التي يمكن أن يكون فيها الباث ممسكا بالزمن كلحظة متلفظة في عالمه الداخلي وإخبارية في عالمه الخارجي.
والتلفيظ والإخبار نوعان من أنواع التلاعب بالزمن، يصفهما بول ريكور بـ( المتعالية المحايثة في النص) وبهما يكون الامساك بالزمن في التعبير عن تجربة قصصية ذاتية، هو نفسه التقاطع واللاتعاقد بين عالم النص وعالم القارئ فلا وجهة نظر ولا صوت سردي يراد منهما إعادة تصور هذين العالمين، لأن المنظور غامض والصوت صامت والذاكرة تتداعى داخل الزمن وتتحرك خارجه ممتدة إلى ما هو أبدي دائم.
وبذلك يكون النص غير المجنس نصا أمسك الباث بلحظته التي انتهت زمنيتها ليكتب نصه في درجة الصفر الزمني في تجربة التفكير.
ولأن النص غير المجنس هو نص اللحظة المعيشة يكون مفكِرة صاحبه الذي تفكر في تجربته واستعادها لحظةً زمنيةً فيها نقطة بؤرية يتقاطع داخلها الواقع والخيال. وهذه الاستعادية التقاطعية هي انطباع برغسوني مفقود على طريق خارج زمني أبدي، يجعل النص غير المجنس نصا متفكَرا لا في تجنيسه أدبيا وانما في استعادته كتابيا بما يمكن أن نسميه( النص التفكري) وفيه يكون الباث وجها لوجه مع نفسه في نصه، وقد تداخل لديه المنطقي بالحلمي والوقائعي بالغرائبي في عملية بوح ذاتي خفي هي أشبه ما تكون بالقصة الإخبارية أو الإخبار القصصي مما سماه ديفيد هيرمان (storytelling).
وللنصوص التفكرية أشكال تتفاوت بتفاوت النشاط العقلي فيها، كأن تكون ميتافيزيقية غنوصية او تكون جدلية تضادية او تكون تفكيكية حفرية كما تتنوع بتنوع الخاصية التفكرية نفسها إن كانت سياسية او اجتماعية أو اقتصادية، لكن التعريف النمطي والشامل للنص التفكري أنه نص انتاجي إبداعي في شكله الظاهري لكنه ما كُتب إلا مخصوصاً في تجربة تَفَكَرَ فيها الباث بنفسه وانغلق عليها بعد أن عايشها واقعا هو الخيال حتى توازى لديه العالم والنص وصفيا ودراميا.
ومن أمثلة النص غير المجنس أو النص التفكري ما نجده في ( ليلة كورونا أو حكاية موت تأجل) للدكتور علي حداد وفيه ينغلق الباث على نفسه فيصير هو الكاتب والمكتوب صاحب التجربة الذي يسرد قصته داخلا في زمن هلامي والمسافة متلاشية بين الذي تفكر فيه وهو( أصابته بفيروس كورونا) وبين نص داخله مثل خارجه أي( استحالة النجاة من المرض وحتمية النهاية)
وبعلاقة تواطؤية فيها الباث متوفى وصوته مسموع والحدث مستعاد يغدو الزمن ممتدا غير متعاقب ضمن عالم رهيب اجتمعت فيه اعتمالات المرض والحب والموت معا. فالباث متفكِر متلاش داخل تجربة يخوضها لوحده متلفظا ولا سامع له، ومخبرا ولا ردة فعل لإخباره. وهذا التضاد بين لحظة عاشها الباث ولحظة فقد العيش فيها هي توكيد للتواطؤية التي فيها النص معادل موضوعي لانشطار الباث، ومثلما أنّ النص لا تجنيس له فإن الباث لا وجود حياً له.
وبهذا تكون لا قصدية النص هي لا قصدية الباث؛ والنتيجة في عُرف النظرية الادبية لا ابداعية، لكنها في عُرف الممارسة التُفكرية انتاجية تقدم معرفة تجريدية هي ليست حسية فيزيقية وإنما هي تجريد ما ورائي. وهذا النوع من النصوص التي هي التفكير في التفكير نفسه إنما تدرس ضمن( علم السرد المعرفي أي الادراكي). وذهب ديفيد هيرمان إلى أن ظهور هذا العلم ارتبط بثورتين معرفيتين: الاولى كانت رد فعل على ما عرف في أوائل القرن العشرين من كشوفات سايكولوجية تتعلق بالسلوك والاستبطان عند سكنر والعقل الظاهري عند هوسرل والتي تحولت في خمسينيات القرن نفسه إلى دراسة الادراك ومعها ظهرت علوم الكومبيوتر وعرفت نظرية قواعد اللغة التوليدية التحويلية لجومسكي. أما الثورة المعرفية الثانية فكانت في اواخر الثمانينيات التي فيها وُضع العقل في سياقات العمل المادي من دون التقليل من النشاط العقلي والسلوكي وصار الاهتمام منصبا على العمليات التي يقوم بها العقل بوصفه برنامجا حاسوبيا يعمل بطاقة الدماغ المادية وطبيعة معالجته المعلومات والنشاط الإدراكي مع ظهور تخصصات جديدة في علوم الكومبيوتر وعلم النفس المعرفي واللغويات والفيزيولوجيات العصبية ونظريات الذكاء المتعدد.
وبحسب علم السرد المعرفي تكون إدراكية (النص التفكري) متجسدة في ازدواجية الكلام/ الكتابة حيث الباث متفكر في تجربته نصياً أياً كانت هذه التجربة شخصية أو مجتمعية. وهذا التفكير ليس كتابة يراد منا أن نبحث في علاقاتها استنادا إلى قارئ يشارك الباث نصه؛ إنما هو كلام ذو دلالات انتفت زمنيتها اللحظية بقصدية التفكير فيها وليس قصدية المشاركة القرائية في اتمامها.
ومعلوم أن احتمالية المعنى تظل حاصلة في( النص الأدبي) أيا كان قالبه التجنيسي؛ بيد أنها غير ممكنة في( النص التفكري) أولا لأن التفكير أمر مدرك ذاتيا من قبل الباث وليس تشاركيا بين الباث وقارئه لغياب القارئ من ذهنه، وثانيا أن التفكير يخالف الادب بعامة والتسريد بخاصة إذ لا أنساق تقولبه ولا قواعد تحده، ولكن هناك موجهات تسيره ليكون ايدولوجيا أو لغويا او دينيا أو تاريخيا..الخ.
وقد يخرق النص التفكري هذه الموجهات فيغدو غرائبيا أو اسطوريا كما هو الحال في نصوص المتصوفة وكتابات الغنوصية التي فيها الكاتب يفكر لنفسه، والعالم الواقعي بالنسبة إليه غير موجود فيزيقيا، إدراكا منه أن لا هوة بينه وبين نفسه بوصفه شخصا في شخصين أحدهما مجسد والآخر حلولي.
وقد يُرى في مثل هذه النصوص الموجهة الى الشخص نفسه أنها أدبية على أساس أن استعادة اللحظة تعني تسريد الحياة نصيا في قالب هو أما رسالة أو مذكرة أو سيرة. ومن ذلك مثلا مذكرات كافكا التي كتبها ولم يكن في نيته أن يعطي ما يكتبه لغيره. فجوابنا أن النص يكون أدبيا متى ما كان المؤلف نفسه عارفا أنساق ما يكتب ومتمرسا في سياقات الكتابة وأعراف القراءة غير طارئ ولا مستجد. وهو ما يحقق في النص الوظيفة الجمالية على وفق الخطاطة الجاكوبسونية سواء كان النص منشورا أو ما زال مخطوطا، يقول ميشيل بوتور: “في أغلب الاحيان تكون الكتابات الحميمة موجهة إلى كتّابها في الدرجة الأولى وهي مكتوبة على أمل نشرها عاجلا أم أجلا” (بحوث في الرواية الجديدة، ص147).
أما إذا كان النص مكتوبا على نية أن يقوم الباث بخرقه فيما بعد أو أنه يكتبه ثم يرفع اسمه منه فيتركه عائما أو يكتبه بخط غير واضح فلا يستطيع قراءته فإن الشرعية ستنتفى عنه كنص. ومن أمثلة الكتابات التي بلا شرعية أبوية الاعلانات واللافتات والعبارات الجاهزة لمناسبات بعينها والمخاطبات الرسمية والعرفية وما شاكلها فهي جميعها كليشيهات عامة. والتناص معها او تحليلها يظل في حدود قارئها وما لديه من ادوات وما يمتلكه من امكانيات تكشف له سيميائية ما فيها من دوال ومدلولات أو ما يكمن في صياغتها من خطابية او ما تشتمل عليه الخطوط والاعمدة والمنحنيات من هندسية. ومن ثم لا سبيل إلى تصنيفها نصوصاً أدبية أو معرفية.